المختصر المفيد في قفطان النطع الفاسي الفريد
واللباس حرير وروّان والحريرية والفينا وشكرناط سلطاني
عين عقدة سر القفطان*
ظل القفطان ردحا من الزمن حكرا على السلاطين والحاشية، حبيس القصور الشاهقة أسورها والرياضات المسكرة أبوابها، فاحتفظت كل مدينة ومركز حضري بقفطان هو لها وتُعرف به كما يُعرف بها.
فها هما حاضرتا أبي رقراق لهما قفطان خاص، والحمامة البيضاء اختصت بواحد كذلك، كما هو حال البهجة الحمراء وغيرهم من حواضر البلاد التي أبدعت أنامل خيّاطيها وأطلق العنان المعلم لملكته فجادت بما جادت حين ألفت أمامها ما أوجدته المعلمات من صنائع كلها اجتمعت في قطعة فنية واحدة لا يزيدها الاختلاف إلا بهاء وجمالا.
ولأنها كانت دارا للسلاطين ومُقاما للتجار وورشة كبيرة للصناع والعاملين، فإن فاسا عرفت القفطان أولا وكان لمعلميها شرف تصميمه وتزيينه بما وقع بين أيديهم من صنعة ذاع صيتها بالأصقاع والأمصار واشتهرت بها الحاضرة، وإن لم تكن هي مهدها الأول، هي خيوط الذهب المسماة "الصقلي".
حين التقى الثوب والخيط، جادت القريحة فسار الخيط الذهبي بأزقتها ودروبها وغطى الثوب الصوامع والقباب ليشقه المقص فينسدل على الدور قبل أن يلتحم بالخيوط اللامعة ويتشكل قطعة رائقة من الفن التي تكاد تتكلم: "قفطان طرز النطع".
وهو قفطان فاسي تقليدي له شكل حرف T اللاتني، طويل الأكمام، واسع التفصيل، تزين السفيفة والعقاد وسطه من الطوق إلى عطفته، وما يميزه هو التطريز أو النطع عليه بخيوط الصقلي.
إيزارها يا عرفة تضرب بيه الأمثال
ما ريت ليه تمثال من خالص الحرير العجمي
وقمايش الهوى في نظمي قفطان من الديباج الوسمي**:
لا يمكن الحديث عن قفطان النطع دون التطرق إلى ثوبه أولا، الثوب المخملي الذائع الصيت إلى اليوم "ثوب الموبر".
وأورد Charles René-Leclerc في كتابه عن صناعات فاس بأن الحرير كان يُصنع بمعامل الدرازين؛ القائمة من القرن الرابع عشر؛ إلا أنها هذه الصناعة لم تكن لتضاهي أو تنافس ليون الفرنسية أو ميلان وجنوة الإيطاليتان.
ومن المدن السالفة الذكر، كان تجار فاس يستوردون الأثواب من قبيل "الملف"، "بوسليم"، "الكمخة" و"الموبر" الذي كان منه نوعان: "موبر الفرنسيس" و "موبر د إيطاليا".
بالنسبة لللألوان المطلوبة فكانت ثلاثة: الأخضر،الأحمر و الزبيبي.
زدوا لواندوا يخضار ولبسوا من الديباج خيار
شلى نصيف
قفاطن الموبر والمشجر
وقلب حجر وشكرناط ودم غزال وسماوي يسبي الهاوي
و الحزمات مضفورين بصقلي منزول على الحرير***:
أما عن خيوط الذهب المشحر فهي حرفة قديمة بالمغرب واشتغل بها اليهود بدايات القرن الحادي عشر بمدينة سجلماسة، حيث الذهب القادم من تخوم الصحراء كالتراب موجود بكل ركن وجانب.
ومن تافيلالت إلى فاس، استوطنت الصناعة حاضرة الصناعات وطورّها اليهود الفارّون من بطش القشتاليين حتى التصق بها اسم "صنعة تاصقليت" وصار اسم الخيوط "الصقلي" الذي هو لقب عائلات مسلمة ويهودية انتلقت من صقلية وإشبيلة إلى المغرب كما قال بذلك الباحث في تاريخ اليهود السفاراد Shai Srougo.
ولهذه الصناعة أطوار كثيرة، يضيق المقام لتفصيلها وذكرها، تبدأ من الدلالة وشراء الذهب ثم إلى دار السكة حيث يصير بين يدي الصقليين ثم منه إلى الطراقة وبعدهم الغزالات والغزالين لتنتهي المشغولات القديمة خيوطا حريرية تلمع في كأنما أوجد "معلمو الصقلي" أشعة شمس تنوب عن تلك القائمة بالسماء تُزين الشرابيل ومصنوعات الجلد والمضام و"الحايطي"، الثوب المعلق على حيطان بعض الحجرات، وأخيرا وليس آخرا هي الخيوط التي ترقم قفطان النطع والكسوة الكبيرة.
واجـبـد قـفـطان اخضر من الموبـر^ واقميـص من الحـريـر
والسبنية ازواقها امشجـر^ واصقليها اكـثير:****
باتحاد الموبر والصقلي وُجد قفطان النطع الذي يجمع بين أُبهة الثوب المخملي الواسم وتوشية خيوط الصقلي المسلكة بمهارة بين يدي معلمة انكفأت على المرمة تنطع القطعة برسوم خالدة لعل أشهرها هو "الطاووس" الذي يوشي قفطان النطع ويشكل جوهره الأساس، فما أفضل من الطاووس النبيل لتزيين قفطان هو النبل والبذخ بعينه؟
صار طاووس قفطان النطع كما هو طاووس أواني الخزف الصينية، رمزا من رموز الفخامة والرقي، أثر من آثار التحضر والغنى، فأواني الطاووس لا تظهر إلا بالمناسبات لتوضع فيها البسطيلة والمحنشة وغيرهما من صنوف الطبخ المغربي، وقفطان النطع لا تضعه المرأة عليها إلا أيام البشر والسرور.
انتقل طرز النطع بعدها من قفاطين النساء ليزين جبادور الصبية حين ختانهم و قفاطين الفتيات عند صيامهن الأول، وذاع صيته فلبسته الأميرتان لالة عائشة ولالة مليكة بحفل الأوبرا في نيويورك عام 1960 و كذلك كان لباس ليلى كورمالي بحفل ملكة جمال العالم عام 1964 ليصير بعدها لباس لملكة جمال حب الملوك بصفرو.
ومذ تسعينيات القرن الماضي، عرف قفطان النطع والقفطان المغربي عامة، نهضة عالمية فتهافت على اقتنائه أشهر الفنانين العالميين وعرف طريقه إلى دور التصميم بكل أصقاع المعمور ودخل العالمية من بابه الواسع.
المراجع:
*عن قصائد الملحون المغربية
La Broderie au fil d'or à Fès, ses rapports avec la broderie de soie, ses accessoires et passementerie par Amélie-Marie Goichon. Hespéris 26
The social history of Fez Jews in the gold-thread craft between the Middle Ages and the French colonialist period (sixteenth to twentieth centuries) par Shai Sroug
Le commerce et l’industrie à Fès par Charles René-Leclerc
بقلم الباحث: إلياس أقراب