عادات الولادة بين فاس البالي والملاح قديما

عادات الولادة بين فاس البالي والملاح قديما

لا يخلو بلد من عادات وتقاليد قديمة،لكن  الاختلاف الوحيد هو في مدى حفاظ كل بلد عليها. يعتبر المغرب بلداغنيا بالعادات المختلفة اختلاف مناطقه و جهاته، هاته التقاليد المميزة لكل جهة ساهمت وتساهم في تكوين الشخصية المغربية، كيف لا وهي ترافقه منذ نعومة أظافره إلى آخر أيام حياته، تحف به الأعراف الاجتماعية لمنطقته مميزة إياه بفخر. فالتقاليد هي جزء لا يتجزأ من الحياة المغربية باعتبارها تراثا لا ماديا حرص كبار السن على تلقينه لأحفادهم كفن عيش. ومن هذه التقاليد سنتكلم اليوم عن عادات الولادة والنفاس بالحاضرة الإدريسية بين مسلميها ويهودها.

يشجع الإسلام على إنجاب الأولاد، وكانت العائلات تفتخر بكثرة أبنائها وأحفادها. لذلك فما إن يتزوج أحد الأبناء إلا وتنتظر عائلته و ائلة زوجته نبأ الولادة، فإذا ما تأخر ذلك، تنصح الجارات و القريبات بزيارة مولاي إدريس والشرب من عين بقربه، لعل و عسى "يفك الله حزامها" حسب معتقداتهن. أما بالنسبة ليهوديات الملاح، فهن يتوجهن إلى الربي "يهودا بن عمار" و يتوسلن به إلى الله عله ينجيهن من طلاق أو ضرة إذا لم يحصل الإنجاب. بمجرد ما يحصل الحمل، فإن الحبلى تحظى برعاية واعتمام خاصين، حجتهن في ذلك مقولتهن الشهيرة: راني بين روحين.

أولى شهور الحمل هي الوحم، ويحرص الزوج الفاسي، مسلما كان أو يهوديا، على تلبية رغبات زوجته و يحضر لها ما تطلبه خشية أن تلمس -دون وعي- موضعا من جسدها فيرتسم ما اشتهته على جسد المولود. كما تنصح العجائز الحوامل بأن يتجنبن لقاء أناس معطوبين أو مشوهين، فإذا ما حصل ذلك، تسارع المسلمة لعض خاتم من النقرة تضعه بيدها، بينما اليهودية تبصق على الأرض متمنية أن يحمل البصاق كل ما يمكن أن تضمره رؤية هذا الشخص من سوء للطفل.

تشترك الفاسيات في فضولهن لمعرفة جنس المولود، ولهن في ذلك طرق وأساليب كدجاجة ميمونة بالملاح أو الشب بالمدينة. وإذا كانت المسلمات يجتمعن في الشهر التاسع ليخضبن يدي ورجلي الحبلى بالحناء، متمنيات لها يسر الولادة، فاليهوديات يجتمعن بحفل مصغر يسمى "تقطيع الكداور" وهي قمط المولود المرسلة من عائلة الأم في صواني مغطاة من حرير، ويقمن بتقطيع القمط وهن يتضرعن إلى الله بأدعية متوارثة كلها تفاؤل.

أما يوم المخاض فتجتمع الخالات والعمات بالبيت المسلم كما اليهودي متضرعات إلى الله ومتوسلات بالأولياء أحيانا للتخفيف من ألام الوضع، يرسل رب الأسرة في طلب القابلة التي تخلي المكان من المتطفلات، وتختلي صحبة الرفادة مع الحبلى وأمها أو حماتها في غرفة واحدة. لأن الرواية الشعبية تقول أنه أثناء الطلق وآلام المخاض فإن الحبلى يكفر لها الله ذنوبها وذنوب المحيطات بها، لهذا يشتد عليها الألم.

عندما يطول الوضع ويصبح شاقا، فإنه يتم الالتجاء إلى نصائح الحكيمات الخبيرات كالإمساك "بحبل لالة فاطمة الزهراء" و هو حبل موثوق بمسمار مثبت في جدار. أو الإرسال في طلب المحاضرية، أي طلاب المسيد ليطلقوا رداءً يمسكون بأطرافه و يسيرون به منشورا في طرق المدينة، وهم يرددون بصوت مرتفع: "النفيسة طال بها النفاس، يا ربي اعطيها الخلاص، بحرمة طه و يس، والقرآن الحكيم"، ويلقي المارون و أصحاب الدكاكين البيض والتين أو النقود في وسط الرداء. كما يزور الصبيان أشهر الأضرحة بالمدينة ويغطسون الرداء بما فيه في سقاية الضريح أو نافورته، ولا يزالون يفعلون ذلك إلى أن تكسر بيضة أو أكثر، فتكون الحبلى قد وضعت، ويعودون للمسيد ليحوز الفقيه ما جمعوه. في المقابل، يحمل رب البيت اليهودي زيتا ليوقد بالكنيس سرجا حتى يتدخل الأولياء ويعجلوا بالوضع، كما أنه كان يكتب أسماء الملائكة بالعبرانية ويضعهم في وعاء من طين فوق بطن المرأة إلى أن تضع.

عندما يتم الوضع بسلام، فالقابلة تتسلم الوليد في خرقة بيضاء جديدة ليكون حَسَنَ الطالع، بعد قطع الحبل السري و رمي الخلاص، اللذان يتم الاحتفاظ بهما عند الطائفتين. بمجرد ما تنتهي النظافة، كانت الحاضرات المسلمات يسرعن لمشاهدة المولود ويضعن عليه قطعة نقدية مباركات. أما الأب فيؤذن في أذنه ويذبح ديكا مهما كان جنس المولود، رغم تفضيل الذكر عند الطائفتين. فاليهوديات يباركن لمن تلد الذكر قائلات "باروخ أبا" أي مرحبا به بالعبرية، وللفتاة فيكتفين بقول "مباركة مسعودة". وتتندر نساء الحضرة الفاسية بقولهن للنفساء التي ولدت بنتا: مبروك عليك الشريكة، لأن البنت عندما تكبر تشارك أمها مواد التجميل وغيرها.

إذا كان مولود الجمعة والأعياد الإسلامية حَسَنَ الطالع عند المسلمين عكس من ولد بالأربعاء أو من صادفت ولادته جفافا أو وفاة،فاليهود يعتبرون مولود السبت سيكون ذو شأن عظيم عكس من ولد يوم التاسع من أب يوم خراب الهيكل عند اليهود.

إن الطفل عندما يولد يكون عبارة عن مخلوق ضعيف يتضرر من جميع المؤثرات السيئة، لذلك يحظى عند الطائفتين بعناية فائقة. فعجائز المسلمين تملأن المكان بدخان الشب والحرمل، كما تحرص النساء على وضع مرآة صغيرة وبعض البخور في صرة لا تغلق قرب رأس المولود. أما عند اليهود، فبمجرد ما يوضع المولود فإن القابلة ترسم جبينه بخط عمودي أسود يعرف بالخموسة، وهي عدد الخمسة الذي يقي من الإصابة بعين السوء كما تدهن جفونه بالإثمد. وعلى غرار المسلمين، الشب والحرمل لهما نفس الخواص، لذلك تضع الأم اليهودية كيسا على شكل سوار على معصم ابنها به هاتان المادتان. وعندما يراد دفع تأثير الشياطين بالمنزل اليهودي، يعلق النساء قرطاسا به مختارات من المزامير عبارة "ليليث" اخرجي من هنا. وتقابل ليليث اليهودية شيطان "أم الصبيان" عند المسلمات وليليث أو أم الصبيان تشتركان في كونهما تختطفان أبناء المؤمنين حقدا منها عليهم، لهذا فالمسلمات يرسلن للفقهاء حتى يكتبوا لهن حروزا تطرد أم الصبيان وتمنعها من الاقتراب. وكل هذه التدابير هي معتقدات وأساطير يؤمن بها البعض.

ابتداء من اليوم الثاني، تبدأ الاحتفالات بالمنزل المسلم واليهودي وتبدأ النساء في التوافد بقفاطينهن وكسواتهن ليباركن للنفساء، ومن اللياقة أن تبارك الضيفة وتقول "تبارك الله" عندما تحمل المولود كي لا تظن أمه أنها تحسدها، فهذه الكلمة تطرد كل شر. الزرورة هي الهدية النقدية التي تضعها الضيفة قرب رأس المولود، وجرت العادة أن تكون هاته الزرورة أكثر من الهدية التي أحضرتها النفساء من قبل للضيفة، وفي العادة اليهودية يجب أن تكون الهدية النقدية قابلة للقسمة على خمسة.

يحظى المولود الذكر عند الطائفة اليهودية بعناية مضاعفة، وتقوم عائلته بطقس التحديد كل منتصف ليل طيلة سبعة أيام. والتحديد يعني أن يتم تمرير سيف عتيق على كل جدران الغرفة والباب المحكم الإغلاق، مرتلين أدعية ومزامير تطرد الشياطين، كما يفعل معدن السيف الموضوع قرب الأم ووليدها. تجدر الإشارة أن هذه العادة موجودة عند المسلمين لكنها في حفلات الزواج بمنطقة شيشاوة نواحي مراكش.

التحديد عادة يهودية بامتياز، كما هو حفل اليوم الثالث عند مسلمات فاس اللواتي يخضبن أيدي المولود بالحناء، ويضعن الكحل على عينيه بمرود فضي. أما خلال اليوم الخامس، فإن النفساء تستقبل جهاز الوليد من عند والديها، وهي مناسبة أخرى للاحتفال أيضا.

"السابع" أو العقيقة، هو اليوم الأكثر احتفالا بالبيت المسلم. يجتمع فيه الرجال ليشاهدوا الأب يذبح كبشا قائلا: بسم الله و الله أكبر، على سمية... ثم يقول الاسم الذي اختاره. و جرت العادة أن لا يتم نطق الاسم قبل هذا الطقس خشية أن يصاب بسوء. واختيار الأسماء يختلف حسب العائلات، فمنها من تفضل إحياء ذكرى أجدادها وإعطاء أحد أسمائهم للمولود، ومن العائلات من تسمي المولود على اسم الولي الذي كان له الفضل، بعد الله، في مباركة حمل الأم، و أحيانا تحلم الأمهات بولي يبشرهن بقدوم ابن يجب أن يحمل نفس اسم الولي حتى يكون مباركا.

بعد الذبح، تدور كؤوس الشاي وأطباق الحلويات بين الرجال إلى حين موعد الغذاء، ليفسحوا المجال للنساء اللواتي يقمن حفلا يسمى التهليلة، و فيه يتم غسل المولود أول مرة و إلباسه ملابس جديدة. إذ تقتضي العادة ألا يلبس الجديد قبل اليوم السابع، ثم يطفن به في المنزل وعلى عتبة البيت، قبل أن يعاد في موكب شموع إلى مهده بعد أن تعرف عليه "أهل المكان"، كل هذا كان يتم وسط جو من الغناء والرقص.

اليوم الثامن هو يوم احتفال يهودي يسمى الميلة، أي طقس الختان الذي يتم في اليوم الثامن حسب التوراة. يحاط سرير النفساء بمختلف الطلاسم للحماية، ويعلق السيفر الذي يضم كلمات التوراة المقدسة، هذا ويلبس المولود حلة صغيرة من حرير وترتدي الأم لباسا مزركشا بالذهب. تقام حفلة الميلة بعد صلاة الصباح ويحضرها جمهور غفير لأنها تمثل دخول شخص في الطائفة اليهودية. يؤتى بكرسي من الكنيس يسمى "كرسي إلياهو" وهو النبي إليا الذي يقال أنه يحضر كل حفلات الختان، لذلك فامتياز الجلوس على الكرسي يباع في المزاد العلني للحاضرين الذين يعتبرون الجلوس على الكرسي شرفا، ويذهب ريع المزاد للكنيس أو الجمعيات الدينية الخيرية .

المكلف بالختان هو الموهيل الذي يزيل الفلقة التي تخبئ بعناية، و يرمي الدم في صحن به رمل و يغسل الجرح بماء الحياة أمام تهليل الحاضرين، ودعواتهم بالصلاح ومباركة المولود. في هذه الأثناء توزع بين الحضور باقات الريحان والورود مع عجين زكي الرائحة يتعين أن يشمه كل شخص ينطق الدعاء الرباني. يأخذ الحاخام المولود ويدعو له، ثم يعلن عن اسمه أمام الملأ، ولا يمكن أبدا أن يدعى باسم أبيه إذا كان حيا خشية أن يموت.

لا يخرج المولود من البيت طيلة أربعين يوما عند الطائفتين، كما لا يتم إعطاء أي سائل كالزيت أو الماء خشية أن ينضب حليب الأم. في اليوم الواحد والثلاثين، يفدي الأب اليهودي ابنه البكر في حفل يسمى "بيديون هابين"، وتقام له حفلة عائلية يخلد فيها ذكرى وفاة كل أبكار المصريين من أبناء وحيوانات، في حين نجا الله أبكار بني إسرائيل. أما اليوم الأربعون عند المسلمات فهو يوم التوجه إلى مولاي إدريس حيث يتم قص بعض شعره ووزنه ذهبا إن كانت فتاة أو فضة إن كان ذكرا، دون إهمال تسليم هدية إلى المقدم. بعد الأربعين تذهب النفساء للحمام وتعود الحياة إلى طبيعتها إلى احتفال الختان عند المسلمين أو احتفال قص الرأس بعد سنة عند اليهود.

إن هذه العادات والتقاليد الضاربة جذورها في القدم عند الطائفتين، ما هي إلا دليل على اشتراكهما في تاريخ موحد يجعلهم يشركون المولود الجديد في طوائفهم و يدمجونه تدريجيا بينهم. إلا أنه مع رحيل طائفة كاملة واضمحلال عادات الطائفة الأخرى، أصبحت هذه العوائد وغيرها من ذكريات الماضي الذي تسرده الجدات بفخر واعتزاز أينما حللن وارتحلن.

 

بقلم إلياس أقراب

المصادر:

العوائد العتيقة لليهود بالمغرب من المهد إلى اللحد لإيلي مالكا. الصفحات: 6 و14.

روجي لوتورنو، تعريب محمد حجي ومحمد لخضر:  فاس قبل الحماية. الجزء الثاني, الكتاب السابع ,الفصل الثامن, الصفحات : 819-822.