سلطان الطلبة: موعد سنوي للاحتفاء بطلبة القرويين
من المعلوم للكل أن جامعة القرويين من أقدم الجامعات بالعالم التي استقطبت مدرسين وطلاب من العدوة والمشرق أيضا. وعندما نقول طلابا فإننا نقول شبابا وما تجمعات الشباب في ما بينهم أيام الراحة سوى لهو ومرح للترفيه عن النفس. هذا المرح لم يكن يكتسي طابعا نظاميا في الوقت ولا في الكيفية إلا عندما وصل السلطان مولاي رشيد إلى سدة الحكم، أما من قبل فقد كان للموحدين عادات وتقاليد للاحتفال بنجاح الطلبة شأنهم شأن المرينين الذين ترأس ملوكهم احتفالات تفوق الطلبة.
ترجع أصول هذا الاحتفال البهيج أيام تواجد السلطان مولاي رشيد بتازة بضيافة الشيخ اللواتي، حيث شاهد مرور موكب عظيم، وسأل عنه فقيل إنه ليهودي يدعى هارون ابن مشعل يسكن قصرا قريبا به من الذخائر والكنوز الشيء الكثير ويشكل إقطاعية بالمنطقة، فساورت المولى رشيد فكرة مقاتلته، لذلك جند له مضيفه خمسمائة طالب فاجأه بهم وقضى عليه فكانت مكافأة الطلبة بعطلة الربيع التي يتسلطن فيها طالب منهم. وردت هاته الحادثة في الشمقمقية لكن مما لا شك فيه أن كل قصة يضاف إليها بعض من البطولات الخيالية حتى أنها تصبح شبيهة بقصص ألف ليلة وليلة. وبهذا نجح الطلبة في لفت الانتباه إليهم ورفع المولى رشيد من قيمتهم بأن نصب سلطانا منهم رأس كل ربيع تقديرا لها على تضحيتهم، فأصبحت عطلة الربيع من أبهج العطل بالقرويين وبفاس قاطبة. لم تكن الإستعدادات أقل أهمية من الحفل بنفسه، فعندما يكتمل جمال الطبيعة في فصلها المفضل تكتسي المروج اللون الأخضر الذي يدعو للتنزه. ويقوم الطلبة كل منتصف أبريل تقريبا بإشعار المخزن بلهجة سلطوية مضحكة أنهم عازمون على إقامة النزهة السنوية وتنظيم عيدهم بالمزايدة على من سيكون سلطان الطلبة. بعد الترخيص لهم من طرف المخزن فإنهم يجتمعون عصر الأربعاء بإحدى المدارس العلمية التي يسكنها الطلاب، وعندما يكتمل الجمع يقف دلال خاص ينادي بافتتاح بيع السلطنة بالمزاد العلني، ويكون لكل طالب الحق في ابتياعها لنفسه مادام يستطيع أن يزيد في الثمن.
جرت العادة أن الطلبة الفاسيين أصلا لا يشاركون في شراء السلطنة فهي خاصة بالأفاقين فقط، لكن هذا لم يمنع من توسط بعض الأعيان الفاسيين في دفع النقود لمن يريدون سلطنته، إذ أنه معروف أن سلطان الطلبة بإمكانه أن يطلب من عاهل البلاد وسلطانها أن يمن على هذا أو ذاك أو حتى أن يعفو على سجين أو معتقل. يرسو المزاد أخيرا على سلطان للطلبة وينفض الجمع معلنا سلطانه الذي يؤخذ الثمن الذي اشترى به السلطنة ليشكل مبلغا أوليا لتنظيم الحفلة، لكنه لم يكن كافيا لذلك فإن الطلبة كانوا يطوفون بالأسواق متشبهين بالقضاة وجباة الضرائب ليجمعوا التبرعات عن طيب خاطر من التجار مسلمين ويهود، كما أن السلطان يبعث بهدية تتكون عادة من أغنام وأكياس حنطة وسكر للمساهمة في إقامة الحفل.
في أول جمعة بعد المزاد يبعث السلطان الحقيقي لسلطان الطلبة كسوة فاخرة من نوع ما يلبسه الملوك تقريبا، وفي هذا اليوم يختار حاشيته من وزراء وأعيان من بين زملائه بالمدرس. أما صاحب الصندوق فكان دائما شخصا معروفا تاجرا أو موظفا، بينما يشترط في المحتسب أن يكون شخصا ذا حس فكاهي. الموكب الخاص بسلطان الطلبة يكون من تنظيم دار المخزن، ويكون موكبا مصغرا للموكب السلطاني الحقيقي. ففي الساعة الحادية يتحرك الموكب من مدرسة سلطان الطلبة الذي يركب جوادا مطهما وترفع المظلة الملكية فوق رأسه، من حوله الحراب وتتبعه حاشيته وجمهور غفير من الطلبة مشاة. بعدهم أصحاب الطبول والمزامير يتبعهم فريق من العسس والشرطة مع مقدمي الأحياء يحيطون بالموكب الذي يخترق الأزقة في صخب إلى أن يصل إلى جامع الأندلس الذي يؤدي فيه "السلطان" صلاة الجمعة ويتوجه بعدها لزيارة ضريح السلطان العظيم مولاي رشيد بداخل قبة سيدي احرازم خارج باب الفتوح شكرا لهذا السلطان وتذكارا لعهده المجيد. يبقى الموكب إلى ما بعد صلاة العصر ليعود أدراجه في نفس الهرج والمرج المختلط بزغاريد النساء من السطوح.
عشية اليوم الموالي يخرج سلطان الطلبة بعد صلاة الظهر في جامع القرويين في نفس الموكب الذي يمر هاته المرة من العطارين، والطالعة، ثم باب المحروق، ومنه إلى سهل واد فاس عبر باب الساكمة، حيث تضرب خيام "دولة الطلبة" يتوسطها سرادق كبير لسلطان الطلبة وحاشيته، ثم بعد ذلك خيام الطلبة وبعض أخبئة أهل فاس ممن يفضلون قضاء أيام النزهة بجوار أجواء مرح الطلبة وقد كان ذلك بمقابل هدايا.
في خلال أسبوع السلطنة ينصرف الطلاب جميعا إلى اللهو والمرح بعيدا عن أجواء الدراسة في متعة وصفاء خاطر. فإذا مضت ستة أيام وأقبل يوم الأربعاء تهيأ المعسكر لاستقبال جلالة السلطان أو خليفته إن تعذر حضور السلطان، وهو مشهد عظيم يحضره جل سكان الحاضرة الإدريسية.
يشرف سلطان البلاد على مملكة الطلاب الصغيرة في موكب حافل ليقدم هداياه الخاصة، وعند الأصيل ينتظر سلطان الطلبة مع حكومته الطلة البهية، لسلطان المملكة حتى إذا دنا الموكب السلطاني ينزل الطالب عن فرسه ويدنو من العاهل مقبلا يده، ويرفع له الكتاب المتضمن طلبه الخاص الذي يرجو من سلطان البلاد تنفيذه. يتراجع بعدها الطالب إلى الوراء ويركب فرسه ثم يقف قريبا من الملك الذي يتفضل ويتحدث إلى سلطان الطلبة حديثا وديا، فيستأذنه هذا الأخير في سماع خطيبه المحتسب الذي يعلق على صدره خبزة كبيرة رسمت عليها الساعات، فيمعن النظر فيها دلالة على أن سلطان البلاد قد تأخر عن موعده ثم يؤكل من الخبزة ويخاطب سلطان المملكة بصوت جهوري عن كيف استطاع الوقوف أمام سلطان ينقاد بأمره الجميع. يكون جواب سلطان المملكة بنكتة أو ابتسامة تعبر عن روح المرح. بعد ذلك، يبادر سلطان الطلبة ويعرب عن قبول السلطان الحقيقي ضيفا على دولة الطلبة ويرحب به أحر الترحيب، بعدها يكمل المحتسب خطابه الهزلي ونثره المقفى في إطار لا يخرج عن الآداب العامة وبأسلوب بديع يثير ضحك الجمهور. بعد ذلك يستأذن السلطان من سلطان الطلبة بالانصراف، فيؤذن له بعد أداء الاحترام الواجب ويعود السلطان في موكبه الفخم إلى قصره.
تأتي الجمعة الموالية بمعسكر الطلبة وهم مازالوا يمرحون ويلعبون مع من قدم معه ومن يزورهم من أهل فاس، يصلي سلطان الطلبة بمسجد أبي الجنود ثم يرجع إلى مقر دولته التي تنتهي يوم السبت، إذ أن المدارس تستأنف الدراسة يوم الأحد.
والطريف أن سلطان الطلبة يجب عليه الفرار الجمعة ليلا حتى لا يكون عرضة للرمي في واد الجواهر من طرف أصحابه بعد انتهاء أيام سلطنته.
تجدر الإشارة أنه منذ عهد مولاي رشيد وحتى بعد الحماية بسنوات، فإن حفل سلطان الطلبة كان يمر بطريقة سلمية وفي أجواء احتفالية قل نظيرها في العالم.
هكذا كانت حفلة سلطان الطلبة تمر في بهجة عظيمة تنسي أهالي فاس وحشة الشتاء، وتدعوهم إلى التمتع بأيام الربيع الذي تغنى فيه شعراؤها.
الباحث: إلياس أقراب
المصادر:
موسوعة جامع القرويين للدكتور عبد الهادي التازي: المجلد 3 الفصل 4 الصفحة 718
Fès avant le protectorat de Roger leTourneau : Tome 2 Livre 6 Chapitre 1