جنائز فاس: طقوس الرحيل الأخير بحاضرة الأدارسة
الموت: عين لا تنضب، سقت ما لا يعد ولا يحصى من الخلائق، ومازال كأسها يدور ساقيا كل من حان أجله فوق البسيطة، كما قضى بذلك رب العزة وسن للخلائق.
الرحيل إلى دار البقاء هو حدث جلل في حياة كل فرد وكل جماعة، فلا يمس الموت المتوفي فقط بل يطال كل طائفته وجماعته. يزور ملاك الرحمة أشخاصا طالت أيام رقودهم فيلاقونه كقريب طال انتظاره، ويختطف رضعا من أثداء أمهاتهن، كما يرفرف بروح سنابل خضراء لم يحن حصادها بعد. حين يدخل بيتا ما ويرتفع فيه صوت العويل، فعندها تظهر عوائد عتيقة وامتزاجات ثقافية من روافد مختلفة تشكل تميزا لكل قبيلة وطائفة. وكما استقبل أهل فاس الوليد بطقوس خاصة، ودعوا الراحل بطقوس أخرى فيها من الدين ما فيها، وفيها من العرف والعادة ما فيها.
لالة غياثة:
لما كانت تشتد سكرات الموت على الإنسان ويوالى جسده القبلة "يُقبّل"، فإن المحيطين به يحثونه على ترديد الشهادة ويذكرونه بها لعلها تكون آخر كلامه فتحل عليه الرحمة الإلهية ويحسن الله ختامه تصديقا للحديث الشريف الذي يقول: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وإن حدث وبلغت سكرة الصدر واشتدت على المحتضر حتى طالت وآلامه وتقاطر القوم عليه يودعون، فبعض من أصحابه وأقاربه يتجهون لزاوية، هم مريدوها، أو مسجد ذاكرين مسبحين متضرعين ليخفف عنه وتأتيه "لالة غياثة".
هاته الأخيرة هي الكناية التي أطلقتها نساء الحاضرة على الموت، فهي التي تغيث الإنسان وتريحه من الآلام إن طال رقوده وذابت عظام حتى اتحدت والسرير.
ولأن العادة الشائعة كانت تقول بأن كل قادم أو راحل عن الدنيا تحفه الملائكة فساعة الاحتضار، كما هو الحال ساعة آلام المخاض، لا يستحب أن يحيط فيها القوم بالمحتضر ولا أن يجلسوا عند رأسه يبكونه.
تطرد العجائز الصغار، وتختفي الأوانس والعزاب، فلا يبقى إلا من هم مسبحات ومسبحين يحضرون النزع الأخير ويرافقون قريبا هو ساعتها بينهم لكنه راحل ليلقى آخرين سبقوه.
والمعتقد الشعبي يقول إن كل من هو مغادر أرض الأحياء إلى بلاد الصمت، يرى ذي قربى آتى ليأخذه أو يمد له يده، فكم من نساء ورجال قيل إنهم لحظات النزع الأخير نطقوا أسماء آباءهم وأمهاتهم أو لمعت عيناهم مرحبين براحل عن الأرض ردحا من الزمن، وكم من الصالحين والصالحات شاهد وليا يناديه باسمه وهو يرحب به.
"مَا كُلّ مَن حزْنَت تْقَجْدرت، ولا من له ميت بكيت":
كان ببعض الأوساط، ممن كانوا وافدين على فاس ولم يتطبعوا بعد بطباع أهلها، ندب الوجوه ونتف الشعور وشق الجيوب تعبير عن الحزن لرحيل عزيز والتألم لفراقه، أما "أهل فاس" لم يكن يُعرف بين نسائهم لا الندب ولا العويل ولا دعاء الجاهلية الأولى من الرثاء المدمي للقلوب والمفجع للصدور.
حين يفيض السر الإلهي وتغادر الروح الجسد تدمع العيون ويرتفع البكاء، لكن القاعدة العامة أن لا خروج عن حدود الأدب ولا غلو في الحزن، فالكل راحل ولا يبقى إلى وجه الرب الكريم.
يصبر البعض بعضا، يبكي المكلومون ويتلقون العزاء بعد أن يكونوا جروا المزلاج على حجرة الراحل وجعلوا شمعة أو اثنتين، من شموع مولاي إدريس، على رأسه، إن كان الزمن ليلا في انتظار الصباح ليتم دفنه.
أما إن مات أحدهم والشمس لم تغادر الأرض بعد فإن ابنا أو أخا يتكلف ويبلع "الصحافة" الذي كانوا يمكثون بباب سوق الحناء على مقربة من مارستان سيدي فرج.
"يا المولى كون معايا في غمة لحدي يوم ناخد شبري في ترابي يا من لي سندا":
والصْحافة هنا لا علاقة لهم بمهنة الصَحافة كما قد يظن البعض، بل هم طائفة اختص بها أهل فاس، يتكلفون بتحضير ما يلزم للقبر وحفره كذلك.
بمجرد ما يتم إخبار أمين الصّحافة، يعين اثنين أو ثلاثا من الصحفاين ومثلهم من الحفارين ليتكلفوا بالدفن.
وقبيل القرن الماضي، كان الصّحافة طائفة لوحدهم والحفارون كذلك، إذ كان أصحاب الطائفة الأخيرة يمكثون بالحفارين على مقربة من سوق العشابين وفندق اليهودي.
في الآن نفسه، كان الغسّال، أو أحد من أهل الدار، يتكلف بغسل الميت حسب ما تقضيه بذلك الشريعة الإسلامية ويضع عليه الحنوط والكفن. والغسل الأخير هو طقس التي كان يولى له أهمية خاصة، فبعض العائلات لم تكن تُحبذ أن يتم تسخين ماء الغسل بالدار وتفضل جلبه من حمام عمومي قريب ويكلف أحد التقاة بمساعدة الغسّال والحرص على جمع كل أغراض الميت لئلا تقع في يد لا تخشى الرب، إذ أن لماء الغسل وغيرهم من حاجيات الميت أغراض سحرية قد تستعمل في كل ما هو شيطاني وتقض مضجع المتوفى وتصيب مخلوقا بأذى.
في الوقت المتفق عليه، كان يأتي الصّحافون أمام المنزل منتظرين أن يتم إخراج محمل الأموات إلى عتبة الدار.
وإن كانت الفقيدة أنثى فإن المحمل يعوض بالنعش أو ما يطلق عليه "المكب" وهو كالتابوت.
والمحمل والنعش كالمغسل، يضعها مسجد لحي في خدمة السكان.
"لا إله إلا الله":
ولربما من قرأ الهيللة قد قرأها بصدى لحنها كما كان يردد الجمع الذكوري السائر خلف المحمل إلى المسجد الذي تختاره العائلة. وعادة ما تتم صلاة جنازة العلماء والأساتذة والقضاة وغيرهم من القوم ذوي الوزن والقيمة في الحياة، بجامع القرويين أو بجامع مولاي إدريس بينما تختار عائلات أخرى مسجدا بجانب زاوية ينتسبون إليها أو جامعا يضم رفات ولي صالح يجلونه.
ومما لا نغفل ذكره أن معظم الجوامع الكبرى لها موضع خاص يُسمى جامع الجنائز، توضع فيه الجثة للصلاة عليها، وجوهرة هاته المواضع، المتفردة عنهم بما لها من زخارف خطية ومقربصات مقوسة مستندة على تيجان مرمر، هو جامع الجنائز بالقرويين العظيم الأثر، العتيق البناء، فهو مما خلفه المرابطون من معالمهم بفاس المحروسة.
بعد الصلاة، يشيع القوم الجثمان إلى دار الخلد والمقام الأخير مهللين ذاكرين.
كانت مقابر فاس، كما هو الحال بكل البلاد العربية ساعتها، عمومية ولا مصاريف لشراء الأرض إلا أن بعضا من العائلات كانت لها روضات خاصة توري فيها أفرادها وتكون عادة داخل المدينة على أرض تملكها، وفضلت عائلات أخرى أن تجاور زاوية أو وليا فكانت تدفع للقيمين على الزاوية أو المكلفين بأحباسها ثمنا مقابل الدفن.
أيا كان المكان، فما إن يصل المحمل حتى يوضع الجثمان المكفّن فوق حصير بجانب حفرة القبر، يحيط به بعض العميان المرتلين لسورة ياسين قبل أن ينزل أحد "الصحافة" القبر ليتلقى الجثة بمساعدة أحد من أقارب المتوفى الذي يردد التحصين الآتي: أنا وإياك في حماية النبي. إذ أن للقبر وحشة ورهبة في قلوب القوم استدعت منهم ترديد الدعاء قبل إيصال الراحل إلى مقامه.
وإن كان الحفارون يقومون بأشغال الحفر فالصحافة هم من يتكلفون بإحضار "الصفية أو الصفاية " وهي الحجارة التي تغطي القبر قبل أن يهال عليه التراب ويسمى ذلك الغطا أو الحد.
بعد الدفن، يذهب القراء والصحافة والحفارون إلى حال سبيلهم بعد أن يكونوا قد تقاضوا أجرهم ويعود أهل الميت إلى دارهم ليتلقوا العزاء.
وجرى العرف أن يتكلف الأقربون والجيران بإطعام المفجوعين ومن جاء يواسيهم، فأهل الميت عادة لا يطبخون طيلة أيام الحزن.
"الحزن في القلوب":
وإن كانت الثلاثة أيام الأولى هي أيام العزاء والبكاء والحزن الشديد، فإن الأربعين الموالية لتاريخ الموت هي أيضا أيام حداد وحزن للأقارب والعائلة، تنتهي في الغالب بإكمال بناء القبر وإعلاء جوانبه ووضع الشاهد على رأسه لئلا يُنسى أو يختفي مع الأيام.
أما الأرملة فعدتها، كما تقتضي الشريعة، تطول لأربع أشهر وعشر أيام تلتزم فيها بعدم التزين ولا التطيب والاحتجاب عن أعين غير المحارم وعادة ما تسبل عليها لباسا أبيضا كما هي عادة أهل الأندلس التي انشترت بالمغرب.
وفي ما عدا ذلك فإن الحزن لا يطول وتعود الحياة إلى سيرها الطبيعي فيصير الميت ذكرى وكلما تذكره أقاربه دعوا له بالرحمة وصدقوا على روحه ما استطاعوا.
ومما انتشر بالحاضرة الإدريسية وكتب عنه المستشرقون ممن استهوتهم الزيارات التي كانت تقوم بها النساء يوم الجمعة للمقابر حيث كان الأمر يتحول إلى لقاءات مصغرة تتبادل فيها الزائرات الحديث وكؤوس الشاي وهن جالسات على جوانب القبور يلعب الأطفال بجانبهن.
"فدان الغربة":
في زمن كان حمل الموتى إلا بلادهم أمرا شاقاّ بل وحتى إخبار ذويهم أو البحث عنهم يتطلب جهدا جهيدا ووقتا طويلا، فإن الغرباء بفاس كانوا يدفنون بالمقابر العمومية ويُدفن من لم يُعرف لهم أقارب بمكان يُسمى "فدان الغربة". وكذلك فإن كل من يُتوفى خارج أسوار المدينة كان يُغسل خارجها، على مقربة من باب محروق أو بضريح سيدي الدراس بباب الفتوح خشية أن ينشر مرضا معديا أو غير ذلك.
و كما يمكنكم ملاحظته بموضوع "عادات الولادة بين فاس البالي والملاح" فإن طقوس الولادة تحاط بمجموع من العادات والتقاليد التي يمتزج فيها الاعتقاد الإسلامي بما رسب من معتقدات سابقة أو وافدة، أما طقوس الموت بفاس كانت تكتسي طابعا إسلاميا محضا.
بقلم الباحث: إلياس أقراب
المصادر:
روجي لوتورنو: فاس في عصر بني مرين، ص: 103/104
الحسن الوزان، وصف إفريقيا، الجزء الأول، ص: 258
LeTourneau Roger, Fès avant le protectorat, Tome II, Livre 7, chapitre 6, pages : 787 et après.
Michaux Bellaire, La description de la ville de Fès, pages : 314/316