سيدي علي بوغالب: ولي الحجامين

سيدي علي بوغالب: ولي الحجامين

لا يختلف اثنان على أن مولاي إدريس هو ولي فاس المشهور بها والمشهورة به، فلا تُذكر المدينة دون ذكر بانيها ولا يُذكر الولي دون ذكر دعائه الشهير للحاضرة الإدريسية المنسوبة إليه. ليس هذا بمميز لفاس عن باقي المدن العربية، فلكل مدينة ولي حامي ولكل قبيلة ضريح تقيم على شرفه المواسم. فإجلال الأولياء من العادات المتأصلة والمتجذرة في الثقافة المغربية، المغاربية عموما. قد يكون المميز لمدينة فاس هو ضمها لعدد كبير من الأولياء داخل وخارج أسوارها، حتى كاد يصير لكل حي وليه وخص الناس -أو بالأحرى النساء- بعض العارفين، ممن أقبروا برحم المدينة، بأيام خاصة للزيارة طلبا للاستشفاء (حسب معتقداتهم) أو رغبة في تزجية الوقت. ففي زمن كان خروج النساء فيه نادرا، كانت زيارة الأضرحة من أسباب السماح لهن بالخروج.                          

من بين هؤلاء الأولياء الذين حظوا بتقدير واحترام كبير كما خصصت له النساء يوم الأربعاء للزيارة هو الولي سيدي علي بوغالب.

جاء في ذكر سلوة الأنفاس للكتاني '' الولي الصدر الكبير، الشيخ الصالح الشهير، ذو الأسرار الظاهرة، والبراهين الباهرة، حجام أهل الله تعالى، المقصود لكل طالب وراغب، أبو الحسن سيدي علي- الشهير بأبي غالب- الصاريوي دفين صاريوة، المحل المعروف الآن بالقليعة، من داخل باب الفتوح، بالقرب منها.''                                                                                                                               

قيل أن جده جاء من مدشر الصارويين اليازغيين واستقر بحومة صاريوة حيث كان بنو قبيلته والتي منها استمد الحي اسمه الأول.  استقر جده بنقس الدار حيث جثمان الحفيد الذي خلفه والده يتيما فقيرا فتولت أمه رعايته وعلمته صناعة الحجامة وفن مداواة الجراح ففتح الله عليه وحلت البركة الربانية في يديه مما جعل الشفاء يكون نصيب من داواه وعالجه. خالط سيدي علي الفقراء وحضر ليالي الذكر التي كانت تهيم به وتحمله إلى عوالم لا يعلم سرها إلى هو. بعد وفاته، زادت شهرته وصارت شجرة أسراره وارفة تظلل الزائرين فاتسعت داره وبنى الناس عليه روضة عنى بها الشرفاء والسلاطين وقد أحدث القائد بوجيدة المجدولي خارج روضته سقاية يتبرك منها الزائرون ممن أتوه لمداواة العلل والقروح. نشير بالذكر أن ضريح سيدي علي بوغالب عُرف بكثرة تردد القطط عليه وإقامته بين جنباته حتى صار يُضرب المثل بها حين الكلام عن تقبل الشخص الآخر بإيجابايته وسلبياته ''من حب سيدي علي يحبو بقطوطو''.              

إضافة لمناقبه وبركاته حيا أو ميتا، فسيدي علي بوغالب هو الأب الروحي لطائفة الحجامين بمدينة فاس. بذكر الحجامين، لا نعني مهنيي اليوم الذين اقتصرت حرفتهم على قص الشعر وتجميله، بل حجامو فاس قبل الاستقلال، وبعده بقليل.                         

لم يكن الحجام مجرد مهنيّ عادي لا يتذكره الزبناء إلا من حين لآخر، بل كان فردا من العائلة الفاسية الكبيرة يحضر أفراحها، يختن أبناءها ويؤطر حفلاتها. كانوا يشكلون طائفة يرأسها أمين لهم وكل الحجامين من الفاسيين الأقحاح يعرفون عوائد المدينة وأصول عوائلها. ولعل كل قارئ الآن يتخيل شكل محل الحلاقة القديم حيث بعض الأدوات العتيقة والكرسي المتهالك مع المقاعد التي يتخذ منها العاطلون مجلسا لقراءة الجرائد وتبادل القيل والقال، هكذا تماما كان محل الحجام التقليدي بالحاضرة الفاسية.                                               

كما أسلفت، لم تكن يد الحجام تعرف طريق المقص والمشط فقط، بل كانوا مهرة في فصد الدم، إزالة الأسنان ويجرون بعض العمليات الجراحية البسيطة ومنهم من كان بعض أرباب العائلات الأرستقراطية يلجؤون إليهم للف عمامة العيد.         

كل هذا ولم ينتهي دور الحجام، فهو لن يحتل مكانة مهمة بلف عمامة أرستقراطي. كانت العائلات تلجأ للحجامين في الأعراس كذلك فهو حلاق العريس ووزريه بالطبع، بما أن طقسا كاملا يقوم أثناء الحلاقة ويسمى ''الغرامة على العريس في الشيلية'' أو الشيلية باختصار، لكن كان الحجامون يقومون مقام النادل حاليا. يقدمون الحلوى والشاي، يرحبون بالضيوف ويقيمون النظام بوضع كل مدعو مع الطبقة الاجتماعية المنتمي لها. وحجام الأسرة، كما يتذكر أغلب القراء الآن، هو من أشار لهم بيده قائلا ''شوف الفريخ'' قبل أن يقوم مقصه الحاد بعمليته.     

الحجامون طائفة بصمت الحياة الفاسية، وكانوا كغيرهم من الحرفيين يتلقون أجَرًا بسيطة على أعمالهم، وتعتبرهم الأسر الفاسية من المقربين الذين تجوز فيهم الصدقة، إلا أنهم كانوا عفيفين نزهاء حافظين لأسرار العوائل ومحسنين فوق كل هذا.

في خريف كل سنة وبالضبط يوم الأربعاء، ينظمون موسما لولي الحجامين سيدي علي بوغالب فهم تحت حمايته بما أنه كان قيد حياتهم حجاما كذلك، يستمدون البركة منه ويحفظون عهده. في اليوم المعلوم كان كل حجام يحضر أدواته للضريح ويأتون بفقهاء لتلاوة الذكر الحكيم وإنشاد دلائل الخيرات، ثم يدخلون الضريح ويبيتون مع ضيوفهم الحاضرين في احتفالات متواضعة لكن صادقة. صباح الغد، يبدؤون باستقبال كل الأطفال المعروضين عليهم لإعذارهم دون أي أجر لوجه الله تعالى. كانت العملية تستمر للظهيرة، لكنهم كانوا يمكثون في الضريح للمساء. 

حل النادل محلهم وصار الطبيب هو من يُعنى بالجروح والقروح، فانحسرت مهنتهم على الحلاقة فقط لكنهم لم يفرطوا أبدا في ولائهم لوليهم الحامي. وحتى زمن قريب جدا كان موسم سيدي علي بوغالب مناسبة لإعذار أبناء المعوزين قبل أن يُطوى كصفحة بالية من صفحات الحياة المعاصرة، ولم يبق للحجامين التقليديين وبركات وليهم ذكر إلا في عقول الشيوخ وخطوط الكتب.

بقلم إلياس أقراب

المصادر:

محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني: سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس. الجزء الثاني الصفحة21

روجي لوتورنو, ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر: فاس قبل الحماية. الجزء الثاني الصفحات من 772 ل776