الركب الفاسي: رحلة الحج إلى الديار المقدسة

الركب الفاسي: رحلة الحج إلى الديار المقدسة

جهزت و عولت للسفر من فاس لمكة و صرت عازم ببتارة نزور سيد البشر*

أبيات قصيدة من الحضرة العيساوية وأي أبيات خير من هذه لتسمو روح الإنسان وتنفصل عن العالم المادي، لتنصهر في عالم روحاني على إيقاعات تساعد على ذلك. هاته الأبيات تحكي شوق الناظم إلى الأرض المقدسة بعد أن انقضى صبره وعزم أخيرا على شد الرحال إلى مكة السعيدة صاحبة الطريق البعيدة التي كانت من أصعب الطرق، وأدب الرحلات غني بحكايات ركب الحاج المغربي من كل البلاد، وفي هذا المقال سنتكلم عن ركب الحاج الفاسي.

يعتبر الركب الفاسي أول ركب رسمي يحل محل الركب الصالحي الذي كان يخرج من آسفي لمكة،  تأسس الركب الفاسي على يد السلطان يوسف بن يعقوب المريني، ويعتبر أهم ركب للحجاج المغاربة. وهو الرسمي منذ عهد المرينين إلى العلويين، وحتى  إن جعل السعديون الركب المراكشي هو الرسمي فإن الفاسي حافظ على مقامه ومركزه مضاهيا الركب الشامي والمصري.

 بالعودة قليلا إلى الماضي نشاهد أن الحج في المغرب قبل الركب الصالحي كان أكثر عرضة للمخاطر، حتى أن من العلماء من أفتى بسقوط الحج عن أهل المغرب لما فيه من مشقة قد تصادف الحروب في الطريق، وذلك ما حصل لمدة نصف قرن تقريبا لم تطأ أرجل المغاربة خلالها البقاع المقدسة إلى أن قام أبو صالح برباطه نظاما يمكن تشبيهه بالجمعية الإسلامية حاليا، إذ حبب للناس الحج واشترط على مريديه أداء هذه الفريضة التي بدأ بتنظيم ركب للحجاز لأدائها. وبقي هذا الركب مدة من الزمن إلى أن أسس المرينيون الركب الفاسي الذي كان لمدة من الزمن يمشي برئاسة أحفاد أبي صالح.

الركب الفاسي هو ركب الأمراء والأميرات الذي حفه السلاطين بالهبات وحملوه بالعطايا للحرمين، كما أنه منذ عهد المرينين كان يحظى بعناية خاصة. ونورد هنا الإعانات المادية والوفيرة التي جاد بها أبو الحسن المريني على الركب الذي توجهت فيه أخته لالة مريم المرينية، كذلك سيدي محمد بن عبد الله العلوي أنفق على غير واحد من الحجاج ذهابا وإيابا متبعا بذلك سنة مولاي الرشيد بن الشريف الذي أسس أبارا في طريق الركب بمكان اسمه الشط ببلاد الظهراء. و كانت الآبار تعرف بآبار السلطان وما أعظم هذا الوقف للسلطان الذي ظل محطة تزود للمياه في قلب الصحراء. ويجرنا الحديث على الوقف إلى أرض محبسة على إبل الحجاج تعرف بحاجة وكانت قرب باب الفتوح.

لْحَاجْ الطَّالْبْ فاضْ بَحْرُ وَدْفَقْ بَجْوَاهَرْ

وَتْهَيَّأْ لَلْمِيـزْ وَالسّْفَرْ بَالْمَــالْ وُلَجْـوَارْ

وَالدّْوِيدَرْ مَعْلُومْ بَالشّْجَاعَة فَالْهَيْجَا بَاتَـرْ

يَتْقَدَّمْ قُدَّامْ الرَّكْـبْ وَيْهَـدّْ اللِّي جَــارْ

وَالْفَرْسَـانْ امْحَرّْبِينْ وُمِيرْ الْحَجّْ الْغَازَرْ

يَتْقَدَّمْ يَا صَاحْ اللَّكْحَـارْ مَا هَزُّ كُـــدَّارْ

وَشْنَادَقْ  فَألْحَرْبْ رَبْيَة فَكْتَافُو تَتْسَاخَـرْ

وُمَمَالَكْ وَعْلُوجْ زَاعْمَة وَالْحُــرَّاسْ اكْثَـارْ

وَمْدَافَعْ وَكْبَارْ الطُّبْجِيَّة عَنْهُمْ تَتْعَابَــرْ

وَفْرَاسَنْ عَنْهَا ايْكَلْ مَنْهُ شَاعَرْ عَيَّــــارْ

وَالْمُخْبِرْ اعْلَى امْطِيْتُو حَامَدْ شَاكَرْ ذَاكَرْ

قَابَضْ شُورُ ابْلَقْوَامْ وَيْطِيرْ امْـعَ لَطْيَارْ**

الركب الفاسي يسير وفق تقاليد ونظام محدد، فهيأته العليا تتكون من شيخ الركب وهو في القصيدة الطالب بن جلون، وأمير الركب الذي جرت العادة زمن العلويين أن يكون الأمير من أهل فاس ويكون من علية القوم كما يختاره السلطان بنفسه، ثم قاض وقائد بالركب ترافقه حامية وغفير يسمى "الزطاط" أو "الدويدر"، معه "العلام" أو المخبر الذي يتكلف بحمل الأعلام التي كانت بمورستان سيدي فرج، هي وطبل النحاس باعتبارهما من الأوقاف. شيخ وأمير مع قائد وزطاط مرفوق بمخبر وبعض الجنود، هذه الثلة هي الأساسية أما الباقي فيختلف حسب الزمان والمكان، كما نرى بالقصيدة أعلاه التي تتميز بجنود وأصحاب مدافع وفرسان لأن السلطان مولاي إبراهيم بن مولاي سليمان هو من كان أمير الركب لذلك وجب اتخاذ احتياطات أكثر.

تميز الركب الفاسي كما أسلفنا بالذكر بأنه ركب الأمراء والأميرات، فإضافة لأهل فاس وباقي الأقطار فالركب كان يتشرف بمرافقة أميرات الدولة المغربية، ومنهن الصالحة مريم المرينية التي حجت سنة 1338 ابنة السلطان عثمان بن يعقوب المريني وهي من أعظم الرحلات التي تحدث عنها العرب والغرب معا. فقد كانت تحمل هدية فريدة إلى المسجد الشريف لم يعرف التاريخ مثلها لملك من ملوك الإسلام، إذ أن العاهل المغربي أبو الحسن نسخ بيمينه نسخة من القران الكريم برسم الوقف الخالص للمسجد النبوي. فقد جمع الوراقين لتنميق النسخة وتذهيبها كما صنع للمصحف ظرفا من الأبنوس والعاج والصندل  من فائق الصنعة، كما غشي بالذهب ورصع بالياقوت واتخذت له أصونة من الجلد المتين المرقوم بخطوط الذهب، و فوقه غلائف الحرير و الديباج، كما زود هذا الركب الشريف بأموال لشراء ضياع بالمشرق وقفا على من يتلون القرآن.  

تلت هذا الركب ركب أميرة مرينية أخرى اسمها لالة مريم، أيضا رافقتها خيرة الأميرات والمحظيات سنة 1345. أما سنة 1742 فكان الركب مرفوقا بالملكة لالة خناثة بنت بكار المغافرية جدة العلويين، وهو ركب خرجت نساء طرابلس لرؤيته ورحبن بالملكة التي اشترت دار ووقفتها على من يتلون القرآن بمكة المكرمة. وغير هاته الركائب الكثير التي كانت تسير إلى مكة بشوق عظيم و بهبات أعظم تسمى "الصرة الفاسية" التي تضم هدايا السلاطين والملوك مع هدايا الأعيان وأهل فاس لخدام الحرمين الشريفين.  كما أرفق السلاطين الركب الفاسي برسائل توصية لخادم الحرمين الشريفين حتى يعتني بالحجاج المغاربة، ورسالة أخرى للحضرة النبوية الشريفة تتضمن أدعية ورسائل مهداة لروح رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتضرعون فيها إلى الله بحل أزماتهم و فك كرباتهم بجاه النبي العدنان محمد خير الأنام.

خْوَايَجْ هَلْ فَاسْ بَرْزُوا بَمْضَارْبْ وَسْحَاحَرْ

وَخْيَـامْ اعْجِيبَة امْتَحْفَة فُرْجَة لَلنَّظَّـــارْ

وَهْجَايْنْ وَخْيُولْ رَابْضَة وَصْـوَارَمْ وَخْنَاجَـرْ

وَمْكَاحَلْ وَسْنُونْ وَالسّْيُوفْ اتْقَصَّـرْ لَعْمَـارْ

وَوْلاَدْ الْمَلِكْ كَبْدُورْ ضَيْ اسْنَاهُمْ ظَـاهَـرْ

حَفَّتْ بِهُـمْ نَـاسْ لَوْفَا اعْبِيـدْ وُلْحْـرَارْ

نَزْلُوا افْبَابْ افْتُوحْ فَالْقَلْعَة وَنْـوَاوْ الأَجَــرْ

وجْزَمْهُمْ الْوَقْـتْ مَا ابْقَـى لَلْمَحْتَالْ اشْوَارْ**

أواخر شهر ربيع الأول المعروف بشهر "الميلود" يبدأ خطباء المساجد في الدعوة إلى زيارة البقاع المقدسة والتشويق إليها، كما يعلن المنادون عن تاريخ خروج الركب الذي يكون عادة عند نهاية جمادى الثانية، وبالضبط في السابع أو الثامن و العشرين منه. وكان يخرج من باب الفتوح وينزل بمكان يسمى ولجة العسال بارزا في هيئة بديعة تتزاحم الرقاب لترى الأخبية والقياطين التي تدق فيها الطبول وتظهر فيها الزينة لتشييع ركب الحجيج تشييعا منقطع النظير، قد يحضره السلطان وحاشيته أما فاس فقل من يبقى فيها إذ أن الكل يخرج لتوديع الركب بالدموع تشوقا لزيارة البقاع الطاهرة أو بالزغاريد  فرحا لسفر عزيز إلى "لالة مكة".

لك أيها القارئ العزيز أن تغمض عينيك وترهف سمعك ليصل إلى أذنيك صوت الطبالين وزغاريد الحاضرات، ستظهر لك عندها صورة ستتمنى لو أنك شاهدتها حقيقة لمجموعة إبل فوقها هوادج مزينة أو أمتعة مغطاة يجرها رجال أغلب لباسهم الأبيض يودعون ذويهم وأهاليهم للقاء أهل مكة، غير مبالين لا بمشقة السفر أو مخاطر الطريق. إنها للوحة عظيمة بحق تختزل كل الحب والشوق للأراضي المقدسة أيام كان الحج شرفا ما بعده شرف.

بمرتفعات تازة يكون هلال رجب واضحا للركب الذي يتوجه إلى صحراء الجزائر أين يلتقي بالركب السجلماسي، ومنها إلى تونس وطرابلس ليصل أخيرا إلى القاهرة، في شهر رمضان أو بعده، ويمضي فيها شهرا بين زيارة قبور أهل البيت كالسيدة نفيسة والحسن. وبين الاحتكاك مع علماء الأزهر أو بالتجارة بالخانات وغيرها من الأعمال التي فضل بعض المغاربة الإكمال فيها بعد الحج عندما قرروا الاستقرار بمدينة القاهرة المحروسة، كما هو الحال بالنسبة للشرايبي وغيره ممن أصبح لهم شأن بالقاهرة و تولوا مناصب تجارية هامة كشهبندر التجار.

يَوْمْ الْمَحْمَلْ ايدُوزْ لاَبَسْ كَسْوَة عَكْرِيَة    حُسْنْ ابْهَاهْ مَنْ ابْعِيدْ يَسْبِـــي

بَحْلِي وَحْلَلْ وُلَتْفَاتْ وَجْوَامَرْ ذَهْبِيَـة   عَنْ ذَا مَا صَالْ بِهْ عَرْبِــــي

مُوبَّرْ لَكْتَافْ قَصّْتُو تَنْبَاكَنّْ اثْرِيَّـــة     وَمْجَادَلْ لَحْرِيـرْ فَاشْ امْغَبِّــي***

أعظم احتفال يشهده الحجيج المغاربة هو حفل المحمل الذي يشاركون فيه بمسك أحد أطراف كسوة الكعبة تبركا، بها ويطوف المحمل الأسواق والشوارع في أبهة عظيمة وصفها كل من مر بالقاهرة في طريقه للحج. كل سنة بعد تغيير الكسوة تؤخذ الكسوة القديمة و يعطى منها طرف للعديد من الأشخاص منهم الأمراء والأعيان أو حتى العوام ممن لهم نصيب من هذا الأثر المبارك العظيم، وقد أحضر الركب الفاسي غير ما مرة طرفا من الكعبة الشريفة أو من كسوة مقام إبراهيم التي وضعها سيدي محمد بن عبد الله بصالة البرج البحري بصقالة الصويرة مدة من الزمن. لنا أن نشير هنا أن الهودج أو المحمل المصنوع من أجود الخشب يكون فارغا و يحمل فقط لما له من مكانة روحية، إذ أن أول من خرجت به هي شجرة الذر، أما الكسوة فتوضع في صناديق تحملها الجمال مرفوقة بالجند وأصحاب الطرق الصوفية يذكرون ويرفعون الرايات.

أ حجاج إلى مشيتوا بلاتي مهلوا عليا

نتوضى فبير زمزم و نصلي في بورقية*

سواء على الطريق الساحلي أو الداخلي بالطريق من مصر إلى مكة كانت تعرف بالصعوبة والمشقة بما أنها كانت قفرا وبيداء، رغم تسهيل الملوك للعقبات وبناء المحطات والمساجد وحفر الآبار، إلى أن يشرفوا على مكة ومسجدها يطوفون ويلبون ملتقين بحجاج من الشام وبلاد الرافدين، من مالي و شنقيط، وبلاد فارس وبلاد الأناضول. الكل في لباس الإحرام يسعى ويلبي، تزدحم الأكتاف وتتسارع الخطوات، حيث اللباس الموحد وكل امرئ مع أعماله. لنا أن نذكر أن أمراء مكة كانوا يثقلون على الحجاج بالمكوس و خارج الحرم كان الأعراب يهجمون على المتوجهين للمدينة إلا أن ذلك لا يغير شيئا في حب أهل البيت و البقاع المقدسة.                

أمكة عروسة و حجوبها بويض حرير*

                        الملايكة حبوني و عطاوني تفاحة نمشي لرسول الله هناك نصيب الراحة****     

بعد أداء المناسك من سعي بين الصفا و المروى ووقوف بعرفة، إلى زيارة القبر النبوي الشريف فإن الحجاج يقضون بعضا من الأشغال الدنيوية كالتجارة وشراء ما يحتاجون أيضا ليتوجهوا بعدها إلى طريق العودة، ومن الحجاج من كان يتوجه لبيت المقدس  بفلسطين لزيارة المسجد الأقصى.

إذا عيينا فوق الجبال نرتاح الله أكبر إذا عطشنا من زمزم نشرب الله أكبر *

كما هو الذهاب فالإياب شاق أيضا، ولكن الحجاج يجاهدون الصعوبات والعقبات إلى أن يصلوا إلى المحروسة، ومنها إلى المغرب العربي حتى يدخلوا تازة، فيرسلون البشير الذي يطوف بفاس ويخبر أن الركب وصل سالما غانما، ويخبر بموعد وصوله الذي تستعد له المدينة كاملة بالاحتفالات فرحا بعودة الحجاج. يكون الاحتفال بالعودة أكبر وأفخم، فبعد أن يدخل الحاج إلى منزل تبدأ وفود المهنئين بالتقاطر عليه، متشوقين لسماع حكاياته عن أهوال الطريق وما لاقوه بلالة مكة وشعابها أو بمصر و أرباضها.

البابور قلع و رسا في جدة على وجه النبي نسامح أنا فالكبدة****

استمرت قوافل الحج البري إلى القرن الماضي، وكان الركب الفاسي أهمها، ولم يحس أبدا الحجاج بالغربة لا بواحات الجزائر أو بالقاهرة، ولا حتى بالشام. فالمدن العربية كانت تتشابه وتتقاسم مع المغرب العديد من العادات المشتركة،  وحتى وإن توجه العديد من الناس إلى الحج بالباخرة فإن الركب الفاسي استمر بالخروج حتى رسمت الحدود بين الدول، وبدأ المستعمرون بتسجيل الحجاج واشتراط شروط عديدة عليهم، عندها فقط ألغي الركب البري وبدأ الحجاج بالذهاب لزيارة مكة والمدينة عبر الطريق البحري الذي لا تقل أخطاره عن نظيره البري الذي نظم عنه الشعراء والرحالة قصائد عديدة لتنبيه الحاج ونصحه كما فعل الجعيدي لأصحاب الطريق البحري.

الباحث: إلياس أقراب

المصادر:

من حديث الركب المغربي بقلم محمد المنوني

القصائد من التراث العيساوي، الملحون  أو الحضرة النسائية

*من قصائد عيساوة

** سيدي عبد القادر بوخريص  قصيدة من نوع بورشان في وصف خروج ركب الحاج الفاسي الذي حج فيه مولاي إبراهيم بن مولاي سليمان

*** قصيدة عمر المراكشي "المحمل" نقلا من منتدى محمد أسليم  مقال لمحمد أمين العلوي الملحون و التاريخ: الرحلة الحجازية

**** من تراث الحضارات المغربيات: البيت الأول من قصيدة للحضارات الفاسيات و الثاني لصاحبات الحضرة الشفشاونية