فاس: متحف تاريخي مفتوح أمام الجميع

فاس: متحف تاريخي مفتوح أمام الجميع

قال الحكماء أحسن مواضع المدن أن تجمع خمسا، وهي النهر الجاري، والمحرث الطيب، والمحطب القريب، والسور الحصين، والسلطان، إذ به صلاح حالها وأمن سبلها وكف جبابرتها. وقد جمعت فاس هذه الخصال وزادت عليها بمحاسن كثيرة. 

إن موقع فاس الاستراتيجي لم يأت عبثا، بل هو خيار حكيم من المولى إدريس الذي بدأ يفكر في تأسيس مدينة جديدة بعد أن ضاقت وليلي بالموالين الجدد والوافدين من القيروان، مؤازرين سليل دار الشرف حفيد لالة فاطمة الزهراء. ومنذ تأسيسها ووضع أولى الخيام بفاس بحومة جراووة، وبعد أن سور المكان وتم بناء جامع الأشياخ (يوم 4 يناير 808)، وبعده جامع الأشراف مع دار قيطون  و القيصرية *  لم تلبث فاس أن بدأت بالاتساع بالعدوتين على ضفاف وادي فاس، و بدأت كل عدوة تستقطب أهالي جدد.

 فالضفة اليسرى استقبلت القيروانيين الذين بنوا منازلهم بها، بينما الضفة اليمنى فتحت أبوابها للقرطبيين أهل الأندلس فردوس المسلمين المفقود. اشتد عود المدينتين و كان لهما حظ إقبال عناصر جديدة أضيفت لأمازيغ المنطقة ويهودها، فبدأت المدينة تكبر ومن جرواوة إلى الكدان ومصمودة وفوارة مع الرميلة، بينما الضفة الأخرى ضمت العرب من أهل العراق المستقرين بعين علون ويحصوبيين بالحارة القيسية. من الأدارسة المؤسسين ومرورا بالزناتيين الذي أضافوا أبواب جديدة وحواري أخرى تبعهم المرابطون على يد بن تاشفين الذي وحد العدوتين، تلاهم الموحدون الذين عرفت البلاد في زمنهم الرخاء، وبعدهم جاء المرينيون وبنوا مدينة أخرى هي فاس الجديد، بقيت فاس بين مد وجزر من السعديين إلى زمن العلويين، الذين يحكمونها حتى يومنا الحاضر. 

إن تاريخ فاس لا يخفى عن المؤرخين، وذكروه في كتبهم العربية والغربية، وليس الغرض من هذا المقال استعراض تاريخ مجيد عريق دام لاثني عشر قرنا، بل سنحاول الحديث عن أحياء ودروب فاس التي بهرت المستشرقين في العصور القديمة كما تفعل الآن مع الزوار الأجانب.

إن من سبق له الاستماع والاستمتاع بقصيدة الملحون "دمليج زهيرو" سيحظى بزيارة مجانية لفاس البالي بعدوتيه و المقسم إلى ثمانية عشر حيا كما يظهر ذلك في بيان الملازم "أورتليب" و هاته الأحياء هي:

-الطالعة

-العيون

-القلقليين

-كرنيز

-راس الجنان

-القطانين

- سويقة ابن الصافي

- الشرابليين

-زقاق الرمان

- فندق اليهودي

-البليدة

- الصاغة

-المخفية

-سيدي العواد, الأقواس

-الكدان

-الفخارين

-واد الزيتون

-الكزيرة

هاته الأحياء في اللوائح الحديثة لا تختلف عن التقسيمات القديمة كثيرا فنرى في "سلوة الأنفاس" اللائحة التالية وهي أكثر تفصيلا:

-الطالعة

-العيون, السياج, الدوح

-القلقليين, الرصيف

-كرنيز, النجارين

-راس الجنان, رحبة الزبيب

-القطانين, المعدي, زقاق البغل

- سويقة ابن الصافي, زقاق الحجر

- الشرابليين, المنية, الشرشور

-زقاق الرمان

- فندق اليهودي, الحفارين,سيدي أحمد بن يحيى

-البليدة, الدرب الطويل

- الصاغة, سبع لويات, درب النقبة

-المخفية, كزام ابن برقوقة

-سيدي العواد,, كزام ابن زقون

-الكدان, الشيوبة, الرميلة, جامع الأندلس

-الأقواس

-درب الشيخ

-الكزيرة

هاته الأحياء حسب "ميشو بلير" تخضع لتقسم ثلاثي يجعلها تنقسم لثلاث وحدات كبرى: الأندلسيين بها الستة أحياء الأولى, اللمطيين الستة أحياء الأخرى، والعدوة التي تضم الستة أحياء الاخيرة.

إن مساحة عدوة القرويين أكبر من جارتها ويظهر هذا للعيان. فالقرويين وزاوية مولاي إدريس هما المركز، وتحيط بهما متاهات من الدروب والأزقة. من باب بوجلود بوابة الأسرار إلى القرويين يجب أن تسلك الطالعة الكبيرة وبعد امتداده تصل إلى سوق راس التيالين و العطارين وعين علو التي يمكن أن تصل إليها من الطالعة الصغيرة, وزقاق الحجر الملتقي مع عين علو في جزء سفلي يفضي بك إلى سويقة ابن الصافي في متاهة طويلة، كما أن عين علو امتداد سوق العطارين من الغرب يمكن أن تجعلك تصل إلى سق الجزارين ومنه إلى العشابين، لتجد نفسك في باب الجيسة عبر فندق اليهودي والصاغة. 

وللوصول إلى الصفارين من قنطرة بين المدون يجب أن تمر من سوق المشاطين وتصعد درب باب النقبة، ومن الصفارين إلى القيسارية لابد من الالتفاف حول جامع القرويين إما بسلوك درب الطويل أو تسلق السبيطريين الذي يمكن أن يوصلك إلى الشماعين الذي يتواجد على طرفيه قنطرتي الصباغين والطرافين. 

أما عدوة الأندلس فتوزيعها أبسط وأسهل، إذ يمكن أن تسلك من الشمال عبر سيدي بوجيدة الرميلة إلى بساتين جراووة ومنها إلى باب الخوخة وتامدارت، لتجرك قدماك إلى وسط عدوة الأندلس حيث باب الفتوح يمتد إلى جامع الأندلس الشامخ، لا يأبى إلا أن يحتفظ بمكانه رغم تصدر القرويين. ويبقى المسجد قلب العدوة يحيط به سوق الصفاح ورحبة الزرع سابقا بجوار الكدان. وبين المسجد والنهر اتخذ الحرفيون من حدادين ونساجين وشراطين أماكن لهم. وجنوب العدوة نجد المخفية وسيدي العواد مع درب الشيخ وجزء من الكزيرة.

نشير أن أحياء وأزقة فاس, كسائر أزقة المدن المغربية، تستمد أساميها من أحداث وأشخاص أو صفاتها الجغرافية كالطالعة التي تصعدها، أو عقيبة السبع التي "يحوفها" الفاسيون، أو درب السراج الذي تعتبر دار السراج أشهر دار به،  أو العطارين التي تضم حوانيت أصحاب هاته المهنة وأشهر أسماء الأحياء هي من تستمد أساميها من حرفيي الحي.

إن أسرفنا في الحديث عن الطرق والأزقة بفاس لوجدنا الصفحة أصبحت عشر صفحات. فكيف لتاريخ مجيد أن يجمع في مقال أو مقالين، لكن ما هذا إلى قليل من كثير، و دعوة لكل قارئ أن يعيش التاريخ بنفسه ويمشي بين دروب فاس ليكتشف ما لم يخطه القلم عن دروب وأحياء أخرى، أو ربما يخرج من فاس البالي عبر جنان السبيل أو البطحاء فيجد نفسه في باب السمارين يتجول بالملاح وحي مولاي عبد الله، أو لعله يكون محظوظا فيكتمل عبق التاريخ لديه بتشنيف سمعه بإحدى حفلات ساحة باب الماكينة.

بقلم: إلياس أقراب

*القصة من كتاب روض القرطاس لابن أبي زرع، وفيها اختلاف بين الباحثين في التاريخ، لكنها تعتبر أشهر وأقدم قصة لتأسيس فاس.

المصدر: Roger le Tourneau: Fes avant le protectorat T: 1 partie: 2