الحمامات العمومية بفاس البالي
عبارة "النظافة من الإيمان" هي من المقولات التي ترسخت بالفكر الإسلامي المغربي، كما يتضح ذلك من خلال بناء الحمامات التي تملأ كل مدينة مغربية، و ليست فاس بشاذة عن القاعدة، بل إنها من المدن السباقة لتأسيس هاته المؤسسات التي كانت وقفا للحبوس لأهميتها في الوضوء و الطهارة، وقد ضمت المدينة في سنة 1942 ثلاثين حماما 24 منها بالمدينة و7 بفاس الجديد.
كان لكل حي تقريبا حمام أو اثنان وفي حالات نادرة لم يكن هناك حمام بالحي كالفخارين، لقلة سكانه أنذاك. وهي حمامات يتقاسمها الرجال و النساء في أوقات معينة، تطول أو تقصر حسب الفصول، و جرت العادة أنه إن كان وقت النساء يتم جر حبل على عرض الباب للإشعار بذلك.
يتم توزيع الحمامات بفاس بشكل ذكي، إذ إنها عادة تبنى قرب مجرى المياه لسهولة تصريف المياه، و يساعد على ذلك ميل الأراضي تحت أرضية الحمام. للحمامات تصميم خاص كما ذكره الحسن الوزان، وهو ما لم يتغير إلى الآن، فهناك القاعة الأولى أو حجرة الثياب التي كانت تضم غرفات صغيرة مرتفعة، حيث يتم إزالة الثياب وتسمى الجلسة، وهي كذلك مكان للراحة بعد الاستحمام. تليها القاعة الأولى الباردة وتسمى "البرانية"، بعدها القاعة "الوسطانية" أين يتم إزالة الجلد الميت بعد الخروج من القاعة "الدخلانية" وهي الساخنة التي يعرق بها المستحمون، وبها يتواجد صهريج الماء الساخن المسمى "البرمة" أو "الجفنة".
للحمام منظموه الداخليون والخارجيون، فأصحاب الفرقة الأولى هم "الجلاس" الذي يقبض ثمن دخول الحمام ويحرس الملابس مع "العمار" الذي يملأ و يوزع الماء، معه "الكياس" الذي يقوم بالتدليك و إزالة الجلد الميت، ثم "الكناس" المكلف بتنظيف الحمام. أما المصلحة الخارجية فتتكون من "مول الفرناطشي" المكلف بإحماء الحمام و الماء و الغبار الذي يتكلف بجمع كل ما يصلح وقودا للحمام. و تجدر الإشارة أنه مستخدمات الحمام النسائي كن غالبا زنجيات كالإماء المعتقات.
ومن عادة أهل فاس أن يأكلوا داخل الحمامات أيضان ولعل أشهر شراب فاسي خاص بالحمام هو شراب "الزريعة"، الذي يحضر من بذور البطيخ المجففة و ماء الزهر مع القرفة أو عصير البرتقال و اللوز، وهي مشروبات غالبا كانت خاصة بالنساء لأنه وكما هو متعارف علي،, فالحمام من الأماكن القليلة التي توجد فيها النساء مجتمعات خارج بيوتهن، لكن يقضين الساعات الطوال فيه يتسامرن و يتحدثن مما يضطرهم لصنع هاته المشروبات الطاقية.
كما هي العادة بفاس فلكل حرفة بها ولي صالح تقدم الهباب لأحفاده، وتعتني بضريحه بينما يعتبر مولاي إدريس حامي الكل وولي المدينة بأسرها. و لأصحاب الحمامات ضريح الولي الصالح سيدي عبد الرحمان المليلي بحومة الجزيرة، وهو الذي يذهب إليه الزبناء إن تمت أي سرقة بالخزانات المقفولة و يحلفون فيه، أو مولاي إدريس أحيانا كي يعطيهم صاحب الحمام ثمن ما فقدوه أو يشتري لهم من سوق المرقطان ثيابا مستعملة تعويضا لما ضاع. وإن كان لأصحاب المسيد حفل سلطان الطلبة و لبعض الحرفيين حفلات الملحون و الآلة، فأصحاب الحمام لهم حفل أيضا يقيمونه رفقة أصدقائهم خارج المدينة، مصحوبين بموسيقيين كأصحاب الطبل و الغيط،, يقتلعون بعد ذلك بصلة زنبق يضعونها في إناء نحاسي جميل و يغطونه بسماط حديث الغسل، ثم يعودون إلى المدينة على أصوات العزف، و أمام باب الحمام يعلقون البصلة في سلة قائلين أنها ستكون سبب ازدحام الحمام إذ سيقصده العديد من الناس، وهي من العادات المفقودة منذ زمن كعادة إحضار كناوة ليلة كاملة للرقص بالحمام لطرد الجن منه.
كما أن بعض الحكايات تقول أن الحمامات تبنى بالملح اتقاءً لشر الكائنات الخفية التي تترصد للعرائس أثناء طقس التقبيب، أو للنفيسة الوالدة حديثا التي تأتي لتكمد عظامها بالحمام محملة بالشموع. وإن كانت الخرافات السائدة بين الناس تجعلهم يدعون أن بعض الحمامات مسكونة، ويحذر الناس من دخولها باكرا بدون مرافقة، فهناك حمامات نالت تعظيما كبيرا كحمامي "مولاي إدريس" قرب الحرم الإدريسي و "سيدي أحمد الشاوي" المنسوب إليهما بركات عديدة، وكذلك "حمام ابن عباد" بالقطانين الذي يقال أن المياه تأتيه رأسا من "حامة مولاي يعقوب" صباح كل سبت، ونضيف أيضا "حمام الزبالة" بفاس الجديد الذي يحتمي مستحموه بلالة شافية و يدعونها بدعاء ملائم عند الدخول.
ولا يقتصر الحمام على دوره في النظافة التي تتداخل وتعظيم الأولياء أو بعض الطقوس الأخرى بل له دور اجتماعي نسائي خاصة بحكم أنهن من يقضين وقتا أطول بالحمام، يتبادلن الأخبار والأسرار. كما أن الحمام مرافق للمرأة في كل انتقال بحياتها، فهي تذهب للحمام قبل الحناء ليتم تقبيبها، وتذهب بعد الولادة أيضا؟ وكيف لنا أن ننسى دور الحمام في البحث عن عرائس للأبناء أيام كان هذا البناء هو مكان الحماوات المناسب للبحث عن زوجات ورؤية قدهن الممشوق مباشرة. ومن الحيل التي لجأت إليها الفاسيات هي طلب القليل من الغاسول من الأم قبل أن يخرجن من الحمام وهن على اتفاق بموعد للحضور إلى المنزل.
إن الحمامات بمدينة فاس والمغرب عموما كانت ولاتزال تلعب دورها في النظافة، صامدة أمام تغيرات الزمن، لكن بعضا من حمامات المدينة تشكل إرثا حضاريا هام،, قد ضاع إما عن طريق تهديم جزء من الحمام أو إغلاقه ليبقى كالأطلال يرثي حاله وأركانه الخاوية بعد أن كانت تضج بالمستحمي،. ولكن لحسن الحظ هناك حمامات التفتت أيدي الإحسان إليها وترمم أو في طور الترميم، كحمام "الصفارين" الذي بني في القرن الرابع عشر، أو حمام "ابن عباد" بالقطانين الذي ذكرناه سابقا.
بقلم: إلياس أقراب
المصادر:
Roger Le Tourneau: Fes avant le protectorat T1 page: 283
وصف إفريقيا للحسن الوزان الفاسي. الجزء الأول صفحة 229