قصر الباهية: إرث با احماد والحب

قصر الباهية: إرث با احماد والحب
قصر الباهية: إرث با احماد والحب
قصر الباهية: إرث با احماد والحب
قصر الباهية: إرث با احماد والحب
قصر الباهية: إرث با احماد والحب

تأمل معي عزيزي القارئ الفقرة التالية: "يبدو أن النعمة الإلهية، الخيال والهوى والعشوائية هم مهندسو هذا المكان. إنها متاهة، متتالية لا نظام فيها من ساحات رخامية وحدائق، خلالها انفتحت قاعات لها بهاء سماوي، ملائكي، بأبواب تقترب من السقوف، عليها التوريق والتشجير، رُسمت عليها النجوم، زُيّنت بالأرابيسك؛ بفسيفساء ألوانها تبدو لامعة تحت المياه الرقراقة الدافقة؛ أشرطة من الجبس المنحوتة بيد لا ينضب خيال صاحبها؛ سقوف هي تارة قباب وتارة أخرى هي كالقص، حينا هي سقوف كهوف تدلت منها الرواسب من ذهب ولازورد وزنجفر، عوارضها مسطحة وحينا آخر هي سقوف مسطحة تخترقها العوارض الخشبية الرشيقة تناثرت عليها آلاف الزهور كشريان جوي لا يعرف خريفا أبدا، عُلّق على السقف ليسلي يقظانا يداعبه الحلم وهو على وسادته."

هكذا يستهل الأخوان كاتبا "مراكش أو أسياد الأطلس" الفصل الذي يصفان فيه قصرا من قصور مراكش الغنية عن التعريف، بهذه الكلمات المثيرة للفضول والأوصاف المحركة للشعور يفتحان لنا بابا من أبواب القصر ويدعواننا لنغوص في معلم من معالم المعمار، تختلط فيه التصاميم الفوضوية بالتقاسيم المضبوطة والهندسة الدقيقة.
هو قصر خلده المثل الشعبي واحتفظ بذكراه مقيمو الحماية وزاره الناس من كل الأقطار، قصر يقول أن أقسى الحجر قد يُزهر بشقوقه أجمل الورود كما أن أقسى الأفئدة يتفتق ويلين للجمال.
دار من دور المدينة الحمراء وزمردة بعقدها، تفتخر بها وترتفع بها درجات بين المدن.
الكلام هنا عن فخر مدينة البهجة ومعلمتها الحسنة، المفرحة للنفس، المريحة للعقل: قصر با احماد المعروف بالباهية.
اربطوا أحزمتكم واستعدوا فنحن عائدون خطوات للوراء إلى أيام فك خيوط الحكاية في بناء قصر الباهية.

"العتروس طاح فلحمريا علاش ندب عليه": بداية آل بن موسى

لولا أن رجلا يُقال له أحمد بن مبارك تدرج بمسالك السلم العسكري ونال من الحظوة ما نالها فصار يُلقب بمول أتاي، أي القيّم على تحضير هذا المشروب الذي كان شراب النخبة ساعتها، ما كان ليكون با حماد وما كان ليكون قصره.
فأحمد بن مبارك هذا هو والد موسى والد أحمد صاحب حكايتنا.
وأحمد مول أتاي كما جاء في معلمة المغرب، من عبيد البخاري، سوسي الأصل، تدرج، كغيره من البخاريين، في سلم الرتب وتسلق الدرجات حتى نال الحظوة وانتقل من مجرد وصيف هو والده أيام سيدي محمد بن عبد الله إلى رجل دولة وصاحب شأن أيام المولى سليمان الذي قربه منه وأعطاه الحجابة والصدارة فاتسعت مهامه وصار من الديبلوماسيين و"مول الطابع" يأمر وينهى وكذلك كان من الرؤساء الحربيين وقائدي الحركات السلطانية، كلمته مسموعة وأمره نافذ.
مرتبة تقلدها لعقود ثلاث، جلبت المطامع عليه وقوت شوكة الغيورين الحاقدين ممن دبروا ونصبوا الكمين فوقع فيه مول أتاي بوقعة زايان التي انهزم فيها، لامه الجيش وتألب عليه البخاريون فغدروا به بغابة حمرية وضربوه برصاصة أصابته ولم تخطئ فانقضى عمره عام 1819 للميلاد (1235 ه) ودُفن، كما قال بذلك صاحب الإتحاف، يمين باب بوعماير بمكناس العامرة.
وقد أجمع المؤرخون أن أحمد بن مبارك كان صالحا فالحا، من الأتقياء الناهج لسانه بالذكر وقلبه عامر بالمحبة الإلهية، لا يبغي علوا في الأرض ولا يكبر في عينه أمر من أمور الدنيا الفانية، غادر الحياة بلا مال يورثه ولا أملاك يُختلف عليها بعده.
ذكرت المصادر أن لصاحب الختم أحمد بن مبارك ابنان، أحدهما عبد الله والثاني هو موسى الذي تولى الحجابة أيام السلطان محمد بن عبد الرحمان بن هشام ولازال بها إلى أن لبى السلطان دعوة مولاه وخلفه سلطان الحركات مولاي الحسن الذي كان يُجل ويحترم موسى بن أحمد فما كان إلا أن أبقى له الحجابة وعينه بعدها الصدر الأعظم للإيالة الشريفة.
وأيام موسى بن أحمد هذا، تشكلت نواة القصر حوالي 1866 للميلاد حينما شرع الصدر الأعظم في بناء دار له بالبهجة الحمراء على مقربة من القصر الملكي العامر وحدائق أكدال السلطانية باتجاه ربض من المدينة يُسمى رياض الزيتون الجديد.

باحماد: الرجل المكيافيللي

لما هلك سي موسى حوالي 1879 للميلاد ، ظن أحمد ابنه أنه سيتولى لصدارة من بعده وتدني له الدنيا بقطوفها فيغنم إلا أن ذلك لم يتم.
وقد وصفت المصادر با احماد بأنه شعلة ذكاء ونباهة، فقيه حازم، ضابط عفيف الذيل، طاهر الإزار إلى غيرها من الأوصاف التي أسلبت عليه لباس التقوى والورع مع الحزم والشدة في الأمور.
فهو أمير للدهاء، مدبر، خبير في ما يكاد و ما يحبك ببلاطات السلاطين وأجنحة الحريم، على اطلاع بأوضاع البلاد، مُخرص لثورات بلاد السيبة، ضابط لبلاد المخزن.
بداية، عُيّن حاجبا للخليفة السلطاني بفاس المحروسة وبعدها صار حاجبا بالبلاط الملوكي الحسني وتقلد الصدارة، بعد والده، آل الجامعي فما هنئ له بال ولا غمض له جفن من الغصة حتى خاض في ما خاض فيه من التدبير المحكم والمكائد المدسوسة حتى استحكم وتمكن له الأمر عام 1894، بوفاة من كان عرش حكمه على صهوة جواده، مولاي الحسن، ببلاد تادلة.
وأيام السلطان المبايع له، مولاي عبد العزيز استقام الأمر لأحمد بن موسى الذي صار يُعرف ببا احماد، وبتدبيره الحسن قطع منازعيه واستأصل شفة أعدائه فصفا الجو له بعد الغيم وخلت له الساحة بعد الزحام واستبد بالأمر كله لما له من تأثير على السلطان الصغير وكلمة مسموعة بالبلاط ممن خشوا مكائده واتقوا شره.
جرى المال في يد با احماد وخالف نهج جده في التقشف والعيش الزهيد فغرس الأجنة وشيد القصور بحواضر الإيالة وأحوازها وكان من جملة ما وسّع رياض والده بالبهجة الحمراء التي هوى لها فؤاده وسكنه عشقها وكيف لا يهوى مدينة بها البهية، بدر نجوم حسان مراكش، تلك التي عشقها فخلّد اسمها بأن جعله اسم قصره: "لالة الباهية الرحمانية".
لا تذكر لنا المصادر من هي هاته المرأة ولا كيف وقعت سهام عشقها في قلب با احماد الداهية الرزين، فبين من يقول أنها هي الباهية نجلة الباشا بن داود، باشا مراكش ساعتها، وبين رواة يحكون أنها كريمة قائد من قيّاد الرحامنة وسليلة دار مجد وعلم بها وكان لهم رياض بمراكش تعيش به الباهية فرآها مرة أحمد هذا وتُيّم بحبها فخطبها وجعلها سيدة قلبه وريحانة قصوره، أما البعض فهم ينسبون اسم الباهية إلى البهاء والعظمة اللذان ميزا القصر عن سائر الدور.
مهما اختلفت الروايات، فإن الثابت أن با احماد قرر توسيع دار أبيه التي كانت، كما أسلفنا، رياضا كبيرا وله جنان خارجي فاشترى ما يحيط بالرياض من الدور والأجنة حتى بلغ عدد ما اشتراه ستين دارا وست عشرة جنانا ليجعل منهم المهندس محمد بن المكي المسفيوي جوهرة من جواهر المعمار المراكشي مشكلا بذلك قصرا بلغ عدد حجراته مائة وستين بها مقصورات وقباب ومرافق للحريم ومسجد بكتابه وحمام وكذلك كل المساحات الخضراء الشاسعة المسماة "أكدال با احماد" يتوسطها صهريج جميل البناء صافي الماء.

"كملات الباهية":

غُيّرت معالم الدور المضمومة للرياض الكبير وبُدّل فيها ما وافق هوى با احماد وساير تصميم بن المكي المسفيوي فتحولت الأزقة إلى صابات والصابات إلى أروقة منمقة وردهات تصل المرافق ببعضها البعض خالقين بذلك تجمعا سكنيا في ظاهره فوضى لا يُعرف لها أساس ولكن باطنه تصميم محكم وتخطيط دقيق جاعلين من الباهية قصر معمار الفوضى المنظمة والجمال الصوفي الذي لا ينكشف إلا لمن يرى بعين قلبه.
والحديث عن الجمال هنا إنما عن جمال هذا المعمار المتلاصقة أطرافه، المتكدسة مرافقه والمتنوعة جنانه بتنوع الحريم الذي يضم بالخدم والحشم ومن والى با احماد من عشيرة وحاشية ضمتها جنبات القصر.
أما جمال الإبداع الذي لا ينضب والتوريق الذي لا يذبل والتشجير الذي لا ييبس فهو جمال باد للعيان، جذب صنائع الرحمان من طير تشذو وسط حدائقه الغناء وحمام يتمختر مع طاووس حول نافورات من بديع الصنائع على أرض رخامها مرآة للناظر عكست جمال الزرقاء المطلة على الأفنية المغلقة والعراص المفتوحة.
هذا البناء الحديث، إن نحن قارناه مع ما كان بمراكش من آثار قصور مرابطية وموحدية، قد استلزم الجهد الجهيد والتفكير المحكم من المهندس المسفيوي، الذي أشاد به معاصروه من أهل أوروبا،  إلا أن شغل التزيين وصنعة الإبداع فهي مما جادت به قريحة الصناع القادمين من حاضرة بني إدريس فاس وموطن آل إسماعيل مكناس ومن معقل المجاهدين سلا ونافذة المحيط آسفي وبلاد الحضارة أزمور وغيرهم من المواطن طويلة الباع في أشغال التشييد والزخرفة.
ولأن كل صانع صب من جهده ما صبه لخلق تحفة فريدة فقصر الباهية لم يكتمل إلا بعد ست عشرة سنة من بداية الأشغال فيه، كل يوم يُسمع ضرب الإزميل وطرقات المطرقة مختلطة بأناشيد المعلمين وأهازيج بلادهم تتردد بأركان الدور ومرافقها.
طيلة العقد ونصف، كان الصدر الأعظم يبحث عن الكمال فها هو ذا يضيف مدخلا إلى هاته الحجرة ويغلق آخر، يأمر بهدم حائط هنا وبناء حوض أغراس هناك، يُعجب بتزويق القباب يوما ويطلب إعادتها اليوم التالي، فهذا هو ما طبع الله به الإنسان من حب للتغيير وبحث عن الكمال وما الكمال إلا للإله جلّ وعلا.
ومما يرويه أهل مراكش أن با احماد، ومذ جعل اكتمال القصر شغله الشاغل، فإنه كان يؤجل بعد الأمور مرددا: "حتى تكمل الباهية"، فحتى أيام مرضه لما شدّد الأطباء على أن ينال قسطا من الراحة وطلبوا أن يتوقف العمال عن نقرهم ودقهم فهو رفض ذلك وأمر الصناع بإتمام ما أراده منهم إلا أن إرادة الله شاءت أن تُقبض روح الرجل ويلبي داعي مولاه في نفس الوقت الذي انتهى فيه تشطيب القصر والانتهاء من أشغاله كلها.

قضى بن موسى وزير الملك أحمد من    تبقى مآثره في السن الزمن

عام 1900 للميلاد، هلك خازن الدولة والمطلع على أسرارها با احماد صاحب الهيبة المخزنية والنظم العتيقة، في وقت لعل مراكش، والكلام هنا عن الإيالة الشريفة ككل، كانت تحتاج لرجل متقد الذكاء واسع الحيلة حسن التدبير مثله يجعل لها صولة وسط الدول ويكف عنها مطمع الغاشم.
وكما كان حال دار الجامعي بفاس المحروسة قبله، فقصر الباهية صار مطمع الطامعين وتكالب السماسرة عليه بعد أن صارت أملاك با احماد بيد أمناء بيت المال كما أمر السلطان بذلك.
لم ينفع حذر من قدر وفرقت الأموال والتحف شذر مذر بين المضاربين والمزايدين وما بقي فقد جاءت عليه أقوام الثوار ممن قدموا مع أحمد الهيبة لمراكش قبيل الحماية بقليل.
ولمّا فُرضت الحماية على البلاد وصار النصارى يمشون بين العباد فعينوا من الموالين لهم من عينوا، فإن الباهية صار من جملة ما للتهامي الكلاوي من أملاك قبل أن يتخذه المقيم العام ليوطي قصرا له بمراكش وبعدها صار ركنا عسكريا يقيم فيه الضباط الفرنسيون وصدر فيه ظهير شريف عام 1924 يصنفه ضمن المباني التاريخية والتحف الفنية بالمغرب.
هذا وحسب الرواية الشفوية بمراكش، فإن بعد وفاة با احماد الذي لم ينعم برؤية قصره مكتملة وما سار بين أجنته رفقة ما له من العيال والحريم، فإن زوجته الرسمية، وهنا تختلف الروايات بين من يقول أنها "الباهية الرحمانية" أو "زينب بنت الباشا بن داود" قد أصابها الحزن خاصة بعد أن تم تتريك والدها الباشا و زوجها الصدر الأعظم بعده ، فذّل القوم ونزلت عليهم المسبغة التي لم تتحملها الكريمة فهلكت سنتين بعد وفاة با احماد و لله عاقبة الأمور.

قصر الباهية: شاعرية الفوضى المنظمة

على مساحة 37100 متر مربع، امتد قصر الباهية بمرافقه وأكداله يزهو بين نخيل الحمراء على أقرانه، ينافس قصور الحقب الزائلة ويتنافس وقصور عصره في حيازة المرتبة الشرفية لما فيه من بديع التزيين وعظيم البناء القائم بين ظلال السرو والبرتقال مشرفة سطوحه على أوتاد الأرض الشاهقة يكسوها البياض كما تكسوه الزخرفة والفن.
اليوم تقلصت مرافق الباهية وتغير مدخلها من حي رياض الزيتون الجديد إلى مدخل على مقربة من الملاح وصار أكدالها معزولا ومسجدها مفتوحا للعموم على عكس ما كان أيام با احماد.
والقصر، كما أسلفنا، يضم حوالي مائة وستين حجرة فيها القاعات والأجنحة وغيرهما.
كل هذا بمرافق متفرقة تتخللها حدائق وتتوسطها ساحات مرمرية بها الماء الزلال يتدفق من خصّات ونافورات رخامية.
وقصر الباهية في مجمله مكون من  الرياض الكبير، أقدر قسم بالقصر وهم مما بناه سي موسى، والرياض الصغير الذي كان مجلس با احماد وسقيفة شورته؛ الساحة الكبرة وهي التي كانت حديقة أيام الوالد وتحولت لحريم يضم الحرائر والجواري أيام الابن؛ والساحة الصغرى التي كانت إقامة خاصة كغيرها من الإقامات المختفية بين دهاليز مظللة وأروقة مزلجة تُفضي إلى دور وقاعات مبيضة بالجير أو مزوقة بالفسيفساء تقابلها تيارات ماء دافق عليها من الرخام ما يجملها وبأرضها من المرمر ما يكسوها بهاء فوق بهاء قبابها المحاكية لتزيين السماء بأرزها الفواح ونقوشها الخالدة بين التخريم و التوريق تارة وبين الهوابط المنحوتة تارة أخرى.
ولإكمال المرافق فقد كان لابد من حمام ومسجد بكتابه يجعل الأركان مكتملة والتجمع السكاني مشدودا لا حاجة لحريمه بتجاوز العتبة أو مغادرة الحيطان العالية التي تتدلى منها أغصان الأشجار الباسقة وتُزهر بها أحسن الزهور وتشذو بعبقها خالقة جوا من الدعة والنعيم يطمئن الروح ويريح القلب إن هو جال ببصره في ذا الركن الفسيح مما أوجدت يد البشر الفاني متمنيا ملاقاة الرحمان والفوز بجنان وقصور هي وعد الخالق الخالد.

اليوم، فقصر الباهية كنظيره "البديع" مما يزوره السياح وتُقام في جنباته الندوات وهو مدعاة إعجاب للسياح من داخل وخارج البلاد، يقص تاريخ زمن فات هو زمن قصور وحرْكات، زمن الحكايات.

بقلم الباحث: إلياس أقراب

المصادر:

عبد الرحمان بن زيدان: إتحاف الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، الجزء الأول، ص: 424.
عبد الرحمان بن زيدان: الإتحاف، الجزء الأول، ص: 429 وما بعدها.
محمد المختار السوسي، حول مائدة الغداء، ص: 23
معلمة المغرب: الجزء الأول، ص: 172
معلمة المغرب: الجزء الثالث، ص: 1024 إلى 1026

Jérôme et Jean Tharaud, Marrakech ou les Seigneurs de l’Atlas, pages : 73-93

https://www.moroccotimes.info/2021/08/moroccotimes_24.html

https://www.alksar.com/palais-de-la-bahia-marrakech/