الزرزاي: مهنة المتاعب المندثرة

الزرزاي: مهنة المتاعب المندثرة

يجمع العالم أجمع بأن حاضرة فاس تتميز بأزقتها ودروبها الملتوية التي تكاد تصل إلى عشرة آلاف درب، وهو ما يستلزم معه وسيلة نقل لحمل الأمتعة أو نقل أثقال، الشيء الذي يعد طبعا مستحيلا إن تم اعتماد عربة كما هو الحال خارج أسوار فاس البالي، الذي يضم دروبا تكاد لا تسمح بمرور شخصين في آن واحد. هذا ما جعل طائفة تتكون منذ قرون تتكلف بالنقل ولها عادات وتقاليد غريبة رغم أنهم أقدم من استقر بفاس. إنهم الحمالة أو كما حافظ أهل فاس على اسمهم البربري ازرزاية.                                                 

الزرزاية طائفة لم تنسجم في المجتمع الفاسي رغم أنها من أقدم مكوناته، بقيت محافظة على تقاليديها الجبلية الأمازيغية ولم تحد عنها حتى في اللباس. طرح حولها العديد من الباحثين أسئلة بقيت معلقة من دون جواب. واليوم و قد انقرضوا فلا من يسأل ولا من يرُدّ السؤال.          تحدث عنهم ليون الإفريقي في كتابه ولعله هو أول من تطرق إليهم بالحديث مشيرا أن عددهم يقارب الثلاثمئة، العدد الذي لم يتغير زمنا طويلا. ترجع الرواية الشفوية أصولهم إلى قبل ذلك بكثير. ويُقال أن أصولهم تعود لأيام المولى إدريس عندما نزحوا من قبيلتهم قاصدين المدينة الجديدة التي بناها ابن الأوربية. في مدينة حديثة الإنشاء يمكن الاستقرار بأي مكان، لكن كيف السبيل لمن أراد الاشتغال وهم لا مال لهم للتجارة ولا علم لهم بأشغال البناء وغيرها.

اشتدت عليهم أزمة البطالة وقرروا أن يعودوا لموطنهم لولا أن الأمير حز في نفسه أن يراهم عائدين خائبين، فاقترح عليهم البقاء وخصهم بدعاء تقبله الله كما تقبل دعاءه لمدينة العلم. ''لا أريد أن تتركوا المدينة متأثرين بهذه الأزمة الوقتية. استقروا بفاس، وسوف تؤمنون نقل البضائع والأدوات بعون الله كأنكم جمال الصحراء التي لا تكل. هذا وقف أهبه لكم ولأحفادكم، إلى يوم الدين.'' عزّز الوقف مكانهم وآزر الدعاء عضدهم فالتحموا واتحدوا ليشكلوا طائفة جعلوها كما أرادها باني المدينة خاصة بهم وبأحفادهم.                                                     ينتمي هؤلاء الحمالون لبعض قبائل ملوية الكبرى وكير الأعلى كما يغلب الظن أن أصل اسمهم ''ازرزاي'' يعود لأول القبائل التي احترفت المهنة وهم سكان قصر ازرزاي بقبيلة أولاد جرار.                                                                                                                          

على مر التاريخ، تشكلت الطائفة من قبائل مختلفة كلها تابعة للاتحاديتين المذكورتين أعلاه. كل قبيلة شكلت ''تربيعة'' لها أمين خاص وهؤلاء الأمناء بدورهم يختارون رئيسا لهم، وهو الأمين الذي يعترف به المخزن كرئيس لمدة سنة واحدة. نعم سنة واحدة فقط، فأمناء الزرزاية يتغيرون كل سنة بينما الزرزاية نفسهم يتغيرون كل ستة أشهر.                                                                                                                                              

مهنة الزرزاية وراثية، ووحدهم أفراد نفس العائلة من يعوضون أقاربهم العائدين، ويجب كذلك أن يكون القادم شابا له من القوة ما يستطيع بها تحمل الأثقال، ومن الأمانة ما يحوز به ثقة رؤسائه. فهذه الطائفة لا تتكلف فقط بحمل البضائع، بل هم من يحملون جهاز العروس لبيتها ويحملون العروس الشريفة الأصل على ''العمارية'' إلى منزل زوجها. زد على ذلك، منهم من كانوا حراسا ليليين لأسواق المدينة والفنادق التجارية، كما شغلوا نفس المهمة عند بعض الخواص الذين يلجأون إليهم أحيانا لتأديب العبيد المارقين. يتكلف الزرزاية كذلك بتفريش المصلى والأماكن العمومية في المناسبات الرسمية.                             

لم يكن أحد يشكك في نزاهة هذه الطائفة، وحازت ثقة الجميع، فقد كانوا يتكلفون حتى بنقل بعض المعاملات المالية داخل المدينة. أجرهم زهيد ولا يضعون طريفة محددة لخدماتهم، فذلك رهين بكرم الزبون، هذا بالنسبة للمتمرسين أما الوافدين الجدد فالعتال المكلف بهم يحدد لهم أجرة شهرية مدة ثلاثة أشهر إلى أن يتمرسوا.      

لكل بني آدم هفوات ويحصل أحيانا أن يكون هناك زرزاي خالف العادة، وعرف طريق الغش أو السرقة. في هذه الحالة، يتكلف أمين الطائفة برد ما تم سرقته من مال التربيعة، وإن تكرر الأمر فالعقوبة التأديبية لا بد منها.                                                                                                      

عرف الزرزاية بجلساتهم الأربعة عشر المتناثرة. فهم بعدوة القرويين بين عين علو ورحبة القيس، كما تجدهم بقنطرة بوروس وسويقة ابن الصافي، كما لا يخلوا منهم الرصيف ورحبة الزبيب وغيرها من الأسواق والفنادق حيث وجودهم ضروري. عايشوا مختلف الفترات بالمدينة الإدريسية إلا أنهم لم يكتسبوا ولو طابعا منها، فحتى ملابسهم بقيت كما هي: برنس رمادي يلفه قميص ضيق عند الخصر يسمى أجلاب، وفوق البرنس حقيبة جلدية. على رأسه عصابة ''ترزيت'' أو ''أفولو ن الوبر'' وهي شريط يُشدّ به الصدغان، مصنوع من وبر الإبل. لا أدوات له في مهنته سوى جراب كبير ''تخنشيت'' يضعه على كتفه وحبل طويل ''اطوال'' يثبته على الكيس. لا أحذية لهم إلا نعال تربط في الرجل بخيوط دقيقة يُطلق عليها ''إدوكّا''.                                                                                                                                    في المناسبات الرسمية، تعرفهم برقصاتهم الأمازيغية الشجية كما تبصرهم حاملين ''أبياضي'' عرائس النكافات الثقيلة والمرصعة  بالمجوهرات. وحدها عادة تقديم القربان السنوي لولي المدينة ما أشركتهم مع باقي الحرفيين، فقد عاشت هذه الطائفة في صمت واحترام للتقاليد كما نالت ثقة كل من أُتيحت له فرصة التعامل معها.                                                                                                                          عبثا، حاول المعمرون الفرنسيون محاكاة هذه الطائفة العريقة خارج أسوار الحاضرة، وأتوا بمسترزقة أُطلق عليهم اسم ''البورطية''، ومركزوهم بجانب المحطة الطرقية ومحطة القطار، إلا أن أهل فاس لم يجدوا فيهم قناعة ولا أمانة زرزايتهم.                                             اختفت شيلية العروس الشريفة، وخلت الفنادق من المعاملات التجارية، كما تغيرت العوائد وتغيرت الحمولات التي ألفوها، فانزووا في صمت وعادوا لقبائلهم كما ألفوا إلا أن في المرة الأخيرة لم يأت من يعوضهم...فاختفى الزرزاية وغابت تسميتهم عن التداول.

المصدر:

روجي لوتورنو: فاس قبل الحماية. المجلد الأول، الكتاب الثالث، الفصل السادس. الصفحات: 287-291. ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر.

Mohammed Lakhdar : ‘’communication sur Izerzain ou les portefaix berbères à Fès’’ Hespéris tome XIX année 1934, pages : 193-194.