قصيدة الزميتة: جولة بين حوانيت الحرف والصناعات التقليدية
اشتهرت الحاضرة الإدريسية وتشتهر بحرفييها الذين يشكلون نسيجا اقتصاديا مهما بفاس، ومازالوا إلى الآن يقاومون زحف السلع الصينية التي تضر بتجارتهم، وجعلت الحزن يخيم على سوق السقاطين، وأرخت الأزمة بظلالها على من بقي من عشابين ونحاسين ودرازين، أما الشماعين فهي خاوية على عروشها ترثي بجانب الأبارين حرف ومهن كانت تعتبر فخرا للمدينة ولأهلها. وهاته الحرف التي أضحت الآن صناعة تقليدية تحكي عن أمجاد الماضي، كانت في السابق مواضيع تذكر في جلسات الملحون أو عيساوة وغيرهما. ولن نجد خيرا من قصيدة الزميتة دليلا على ذلك، القصيدة التي تبين مراحل صناعة غذاء الطائفة العيساوية المقدس، عن طريق ذكر أهم الحرفيين المختصين بالفلاحة أنذاك، واللباس كما سنرى.
عبارة "أ لالة بسم الله بديت" هي الجملة التي يستهل بها المقدم العيساوي قصيدته في صنع الزميتة، قبل أن يتوجه إلى الناظر المكلف بكراء الأرض للفلاحة، وبعدها ذهب بنا إلى الدرازين ليوصي المعلم الدراز بصنع بونداف الجلابة الصوفية القصيرة التي لا يصنعها الدراز إلا بعد إحضار الصوف من الصوافين، وتكلف النساء بغزله في سوق الغزل. وبعد أن ينتهي من الجلابة يحوف إلى قنطرة الطرافين أقدم قنطرة بالحاضرة، متوجها إلى المحلات المجاورة لها، لأصحاب الأحذية حتى يتمكن من صنف بوعباز يمكنه من الحرث.
انتهى مقدمنا من الملابس ليطوف بنا بعد ذلك من حي إلى حي حتى يصل إلى باب السلسلة، ويدخل بنا إلى سوق العوادين ليوصي عوادا أن يصنع له محراثا من أجود أخشاب الأطلس. ولا تتكامل مهنة العواد إلا مع الحداد الذي يتواجد بالعدوة الأخرى حيث الحدادين صانعي السكة التي تكون مع المحراث. وها هو مقدمنا يغادر فاس لشراء البهائم من الأسواق القروية القريبة قبل أن يعود من باب الفتوح، ومنه إلى رحبة الزرع قرب الصفاح ليشتري الزريعة، وبعد أن ينتهي من ذلك يبدأ العمل اليدوي المبارك من قلب أرض وحرثها، في انتظار وقت الحصاد لحصد القمح. ومن يقول الحصاد يقول العودة إلى الحدادين لصنع المنجل.
وبما أنه بين أسوار المدينة فالمقدم قصد النجار بالنجارين ليهيء له شنة يدخلها لبيته الفسيح، ويحضر من يتكلف بالقمح المحصود. وبعدها يقصد الخراطين بسوقهم ليصنعوا له الربعي حتى يتمكن من عبر القمح ليخرج الزكاة أو العشور المتعارف عليه. لطحن الزرع لابد من الذهاب للرحوي أي المكلف بالطحن في الرحى أو الطاحونة حديثا، و لمقدمنا الاختيار في أن يحمل القمح بنفسه أو يستدعي "الزرزاية"، وهم أقدم المهنيين بفاس، ومن حافظوا إلى عهد قريب على ضوابط صارمة بمهنتهم، ولمن لا يعرف من هو "ازرزاي" فهو الحمال عند أهل فاس. وبعد طحن الزرع فالمقدم الآن مستعد للذهاب إلى قاعة العسل حتى يحضر ما يكفيه لخلط الدقيق المحمر والخروب الزرهوني و"يرون" بيديه الزميتة صداق العيساويات.
قصيدة الزميتة تطوف بنا في رحلة مقدسة بين المهنيين والحرفيين، وإن كان المقدم هو من يقوم بهذا بنفسه، فنحن نرى أن نساء الحضرة الفاسية عندما يغنين السوسي بينهم ينادين "دكاك النقرة" ليهيئ لهن دمليجا على مقياس أيديهن، والدكاك هو الصائغ بسوق الصاغة الذي يصنع الحلي ويتفنن فيها، ومن بين المهنيين الحاضرين بالأغاني هو العطار القائم بسوق العطارين.
بما أننا ذكرنا الحرف فلا بأس من ذكر بعض المهن التي حمل صناعها أسماءها كالسراج الذي يصنع السروج، ودراهم مشهورة بالطالعة الصغيرة، والسقاط المكلفين بتطريز السروج، وكذلك معدات الفرسان. نذكر أيضا السفار المكلف بتجليد الكتب، السفاج صانع السفنج، المجادلي صناع المجدول، وغير هاته الحرف الكثير.
مازالت الأسواق الحاملة لأسمائهم شاهدة على احتضانها لهم قبل أن تخرف أسواقهم، كما شاب المعلمية ولم يجدوا من يرثهم، ليس فقط بالحاضرة الإدريسية بل ببلد السبعة رجال مراكش، وبالجارة الإسماعلية، كما بالصديقة تطوان كمثيلثيها رباط الفتح وسلا وحتى بوجدة وتزنيت، كلها حواضر ضمت أزقة ودروبا خاصة بحرفييها وكانوا فخرا لها ولأهلها.
بقلم: إلياس أقراب