احتفالية بطعم خاص: عيد المولد النبوي

احتفالية بطعم خاص: عيد المولد النبوي

لولا كتاب "الدر المنظم في مولد النبي المعظم" وصاحبه ربما لم نكن لنحتفل بالمولد النبوي الشريف كما يحتفل به سائر المغاربة قاطبة. الكتاب لصاحبه "أبو العباس العزفي السبتي" الذي ألفه ودعا إلى الاحتفال بهاته المناسبة لما رأى من مجاراة الأندلسيين المسلمين لجيرانهم المسيحيين في الاحتفال بميلاد المسيح وبعيد العنصرة ذكرى ميلاد النبي يحيى عليه السلام. لذلك فقد دعا في مقدمة كتابه إلى العناية بالمولد النبوي الشريف وعمل جاهدا على الطواف بالمسايد والكتاتيب يشرح للصغار مغزى الاحتفال، كما حض على تعطيل الدراسة في هذا اليوم الجليل. بعد وفاته,رحمه الله، حرص ابنه أبو القاسم السبتي على الاحتفال بهاته الذكرى كما ظهر ذلك جليا في كتب التاريخ، عندما تولى أبو القاسم إمارة سبتة فجعل يوم المولد النبوي يوم احتفال عظيم أطعم فيه المساكين وارتفعت أصوات المسمعين بالذكر طوال اليوم.

من المعلوم أن أبا العباس أو ابنه ليسا أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف، بل سبقهما الفاطميون وربما حتى العباسيون. إلا أن أبو القاسم السبتي هو أول من بعث لسلطان المغرب الموحدي محمد المرتضي بنسخة من كتاب أبيه ليحثه على الاحتفال بهاته البدعة الحسنة وإشاعتها بسائر بلاد المغرب. وقد لاقى ذلك استحسانا من السلطان الموحدي فصار يحيي ليلة المولد بقصره في مراكش وهو محاط بالمسمعين والذاكرين. امتد الاحتفال حتى عهد المرينيين فأصبح عيدا رسميا بكل جهات المملكة في عهد السلطان يوسف بن يعقوب المريني، الذي تلاه ابنه أبو سعيد الذي أضاف الاحتفال بسابع أيام الذكرى الشريفة أيضا، كما تبنت الدولة التحمل بكل نفقات الاحتفالات بسائر الحاضر والباد. ومع أبي الحسن المريني، صارت الاحتفالات أكثر بذخا وبهجة باقتناء ألوان الطعام والبخور، كما تميزت بتلاوة حصة من القران الكريم وبعدها يتبارى المنشدون في الأذكار والتواشيح التي تمدح في النبي وآله، كما تتغنى بمولده صلى الله عليه وسلم.

بعد بني مرين احتفل السعديون بالمولد النبوي الشريف وازدهرت الاحتفالات حتى ذكرت في كتب التاريخ كما جاء في مناهل الصفا لعبد العزيز الفشتالي. لم يكن العلويين ليتوانوا عن التقصير في الاحتفال بذكرى مولد جدهم صلى الله عليه وسلم. بل على العكس من ذلك أقام العلويون احتفلات شائقة ومهرجانات فائقة في ليلة المولد النبوي الشريف، التي تسبقها كتابة بطاقات استدعاء من طرف الصدر الأعظم إلى الشرفاء والوجهاء لحضور صلاة العشائين بالمسجد القصر الملكي، وبعد الصلاة يخرج خليفة قائد المشور وأعوانه لاستقبال الوفود وإدخالهم وإجلاسهم بالمكان المعين لهم. توضع أمام الملك ثريا موقدة بالشمع المصفى من العسل وبين يدي جلالته منجانة، ويأخذ بيده سفرا به ما يتلى أمامه من أمداح يشارك معهم فيها. ومنذ الشروع في المديح ومجامير العنبر والطيب لا يكاد ينقطع دخانها حتى يضاف من جديد.

بعيدا عن القصر الملكي، بالطبع كانت فاس في وسط كل هذا هي المدينة التي تسبق كل المدن وتتهيأ هي الأولى لهذا الحدث، فتُنار دروبها ويتجمل أهلها كما تنار الثريات بمساجدها ويرتفع دخان العود والطيب ممتزجا بتلاوات الذكر الحكيم. تليه قصائد كالبردة والهمزية للبوصيري، التي تفردت جامعة القرويين بشرحها وقراءتها خلال كل مولد شريف. كما أن أهل فاس جعلوا من شهر ربيع الأول هو شهر الدخول الرسمي للمسيد بالنسبة لمن هم في سن التمدرس، ومنهم من آثر ختان ابنه خلال هاته الأيام المباركة. أما أهل الملحون فقد دأبوا على الاجتماع بساحة معينة والتباري في إنشاد القصائد المولدية، لينالوا شرف الحضور مع السلطان.

داخل الحريم كداخل الأسوار، فإن الفاسيات اعتدن أن ينظفن منازلهن فرحا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن العائلات الفاسية من كانت تقيم حفلات للذكر والحضرة بمنازلها، فكانت ما إن يبدأ فجر صبيحة يوم العيد بالأذان يصمت المسمعون فترتفع زغاريد النساء احتفالا بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي تقول الرواية الشعبية أنه ولد بالفجر، ليبدأ الاحتفال بعدها بكؤوس الشاي والحلوى. ومن العادات الفاسية الأصيلة هي عادة الإفطار بالعصيدة كما قال الشاعر:

أهل فاس هم سادة الناس طرا وعيون الورى وبيت القصيدة ليت شعري يا سيدي لم خصوا مولد المصطفى بأكل العصيدة؟

وهاته العادة دأب السلاطين العلويين أيضا على اتباعها.

يتميز يوم الذكرى الشريفة بعادة أخرى ليست بقديمة العهد، وكل من في زقاق الحجر يعرفونها، وهي تنظيف وتبخير حانوت النبي الواقع بالزقاق المذكور. وهو من المزارات المعروفة بالحاضرة، إذ يقال أن صاحبه رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم يبيع معه فيه فأقفله وجعله وقفا لا يفتح إلا يوم العيد ليبخر وينظف ثم يقفل من جديد.

يمر يوم العيد ويدور الأسبوع ليأتي "سبوع العيد" الذي كان حقا موعدا احتفاليا عند أهل فاس، فهو يوم مخصص للزوايا الصوفية التي كانت تقوم بما يعرف بالطوفة (وهي الطواف بكل الأزقة والدروب منشدين وذاكرين) كل يستظهر ما حفظ عن أشياخه من قصائد في المديح النبوي. وأشهر الطوائف هما طائفتي عيساوة وحمادشة اللتان تطوفان المدينة طيلة أيام العيد، وتقيمان ليال للمديح والذكر بمنازل مريديها,

تعاقب السلاطين والحكام على مدينة فاس كما تعاقبت إماراتهم ودولهم، إلا أنه لم يوجد من لم يحتفل بالمولد النبوي الشريف منذ السلطان المرتضي إلى عهد العلويين، كما اعتنى الشعب المغربي قاطبة بالحفاظ على هاته الاحتفالات التي بدأت بالضياع ولم نعد نرى منها إلا الشيء القليل الذي يذكر بالماضي كموكب الشموع بسلا.

 

الباحث: إلياس أقراب

 

المصادر :

العز والصولة في معالم نظم الدولة لمولاي عبد الرحمان بن زيدان . الجزء الأول الصفحة 172.

سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من الصالحين بمدينة فاس لمحمد بن جعفر الكتاني. الجزء الأول الصفحة 245.

https://www.hespress.com/opinions/101271.html