قصة اليهودية لالة سوليكة
بعد اختراق جوطية فاس الجديد نجد على يميننا بابا حديديا أسودا عليه كتابة بيضاء بثلاث لغات، كلها تقول إن هذا مدخل المقبرة الإسرائيلية لمدينة فاس، أو كما تسمى باللسان الدارج المغربي-اليهودي "الميعارة". وأنت تهم بالدخول يصادفك هذا الدعاء "مبارك أيها الرب إلهنا ملك هذا العالم" وهو دعاء يتلوه اليهود قبل دخول المقبرة.
المقابر مبيضة كلها بالجير وعلى بعض الصالحين غرف مبنية، كما يوجد العديد من طاولات الاستراحة التي تشي لنا أن اليهوديات كن يقضين بالمقبرة ساعات لا تقل عما كانت تقضيه المسلمات بها.
بين كل المقابر البيضاء تظهر قبة مثلثة صغيرة زرقاء تذكرنا بمنازل الشمال، والقبة مجوفة داخلها أسود بسبب تراكم دخان الشموع. نعم الشموع، فهاته العادة من العوائد المشتركة بين أهل المغرب قاطبة، أن يشعلوا شمعا عند قبور الصالحين. لكن لم هذا القبر ليس عليه بنيان؟ وهو فقط تجويف فوق القبر عليه صباغة زرقاء.
لو أتيحت لنا الفرصة للعودة عبر الزمن لاستطعنا رؤية بعض يهوديات الملاح بلباسهن الجميل واقفات أمام القبر، وتنهمر دموعهن على الضريح الذي لم يتغير منذ ما يقارب قرنين من الزمن. إنه ضريح الصديقة صول أو كما تعرف باللسان الدارج لالة سوليكة.
هي صول (بمعنى شعاعة) حتشويل لقب عائلة أصلها من الأندلس، واستقرت بطنجة لتصبح من أعيان اليهود بها. ولدت سنة 1817 من أب اسمه حاييم وأم اسمها سميحة.
تعرف طنجة أنها مدينة الثقافات والتسامح لذلك فاليهود بها لم يلتزموا بحدود الملاح فقط بل استقروا جنبا إلى جنب مع المسلمين. وكان ذلك حال عائلة حتشويل المستقرة في زنقة واروا بالسقاية الجديدة مجاورين عائلة مسلمة غنية كذلك، ولها ابنة اسمها الطاهرة في مثل سن صول. تعودتا أن تزورا بعضهما رغما معارضة سميحة وأم الطاهرة بحكم أن منزل العائلة المسلمة كان به أخ للطاهرة مذ رأى صول وهو هائم عشقا بها، شأنه شأن شباب طنجة الذين افتتنوا بها لجمالها وقلبها الطيب المحب للجميع.
تقول إحدى الروايات المتعددة أن لأخ فاتح أخته الطاهرة التي عرضت الأمر على صول وأخبرتها أنها يجب أن تسلم كي يتزوجها، وقد تصادف ذلك مع خصام بين صول وأمها سميحة جعل الشابة تجلس وقتا عند صديقتها لكنها ما إن سمعت خبر ردتها عن اليهودية حتى عادت أدراجها وجلست بالبيت لم تبرحه، فانتشر خبر كالنار في الهشيم، مفاده أن صول ابنة حتشويل قد أسلمت، وكان ذلك من أفعال الطاهرة ظنا منها أنها تساعد صديقتها وأخاها، إلا أنه كان العكس. فبمجرد ما ذهب أب الطاهرة عند حاييم يطلب ابنته حتى رفض هذا الأخير ورفضت صول منكرة أنها لم تغير دين موسى أبدا بل لم تفكر حتى في ذلك، هي التي تربت تربية دينية لم تفوت فرضا بعد بلوغها. تقول رواية أخرى أن أخ الطاهرة أغلق عليها بمنزله وأحضر عدلين كتبا عقد الزواج والإسلام رغما عن الفتاة اليهودية التي لم تدعه يلمسها وعارضت إسلامها فوصل الخبر إلى باشا المدينة.
تلتقي الروايتان مجددا بعد أن وصل أمر ردة صول عن الإسلام، وهو ما كان يحكم فيه بالموت أنذاك لذلك فالباشا حاول التحري والتقصي أمام رفض صول أنها أسلمت حتى ترتد أصلا, تقول بعض المصادر اليهودية أنها تعرضت للتعذيب حتى تعود عن ردتها لكن لسانها كان يقول أنها لن تخرج عن دين موسى وستموت شهيدة لليهودية.
بالماضي كانت قضايا كهاته تخرج عن سلطة الباشا وتعرض بفاس لذلك فقد حملت صول إلى فاس وهناك تم استجوابها مرة أخرى و حتى أن السلطان مولاي عبد الرحمان حاول إقناعها عن طريق ممثليه بالعودة إلى الإسلام وسيضمها إلى حريمه، لكنها كانت تجيب دائما: ولدت يهودية وسأموت يهودية.
حاول أهلها إقناعها بأن تقبل الإسلام حتى تتجنب القتل، لكنها أبت ذلك بل حتى أنها امتنعت عن الأكل لولا تدخل الربي رفاييل هاتسرفاتي ببعث طعام يهودي لها لكانت ماتت جوعا قبل أن يحكم عليها القاضي أحمد بناني بإيعاز من الفقيه المفتي أبو يحيى السراج, بحكم الإعدام.
في خريف سنة 1834 الموافق لسنة 5594 العبرية، أكملت صول السبعة عشر ربيعا في هذا العالم، وانتقلت إلى عالم الأموات بعد أن كانت أخر أقوالها للجلاد الذي حاول إقناعها بالإسلام: إن الرب سيقطع يديك إن لم تنفذ حكم الإعدام علي، لأنني لن أغير ديني أبدا. ويقال أنها جمعت أطراف تنورتها المسماة "جلطيطة" بين رجلها حتى لا يرى أي شيء منها إن تنفذ حكم الإعدام الذي تم بأحد أسواق فاس.
تكلف الربي رفائيل بشراء جثتها بعد أن كانت ستحرق، ودفنها بالمقبرة اليهودية بفاس سنة ،1834 وقد اتخذت شكلها الحالي سنة 1884 بعد أن أمر السلطان بتوسيع وتجديد الميعارة، فأخرج جسد الصديقة كما هو ودفن بين قبورعائلة السرفاتي الفاسية.
اعتبرت صول أو لالة سوليكة صديقة شهيدة في سبيل دينها، كما أن فتيات فاس كن يزرنها تبركا بها. ويظن البعض أن تراب قبرها نافع لأمراض عديدة وصدقتهن اليهوديات والمسلمات بفاس ونواحيها.
بقلم: إلياس أقراب