فاس قبلة المهاجرين: سكان فاس أيام الأدارسة

فاس قبلة المهاجرين: سكان فاس أيام الأدارسة

تقول الرواية التقليدية حول تأسيس مدينة فاس أنها تأسست في عهد إدريس بن إدريس بن عبد الله سنة 808م، الذي بايعته قبائل البربر سنة 802م أي بعد سنوات من وفاة أبيه، وأسرع الناس لمبايعته من كل مكان ووفدوا عليه من سائر البلدان، من أفريقية والأندلس من القيسية والأزد (ومنهم اختار عمير بن مصعب الأزدي الملقب بالملجوم وزيرا له)، وبني يحصب وغيرهم، فسر الإمام إدريس بن إدريس بوفادتهم. ولما تقوى ملكه وكثرت حاشيته إلى أن ضاقت بهم مدينة وليلي، قرر الانتقال إلى منطقة أخرى يشيد فيها مدينته، ويقال أن الموقع الذي بنيت فيه مدينته "فاس" كان هو ثالث موقع يختاره. 

كلف الأمير إدريس وزيره عمير الأزدي بمهمة إيجاد موقع لتشييد المدينة، وبالفعل تمكن هذا الأخير من إيجاد موقع تتفجر فيه العيون والأنهار، وعاد إلى أميره مبشرا، فلم يتوان المولى ادريس في شراء الأرض من ملاكها الأصليين، وهم قبائل "زواغة" المعروفون ببني يرغش وبني الخير، وشرع في البناء. وكانت عدوة الأندلسيين هي أول ما بني، بينما تأسست عدوة القرويين سنة 809. وما أن أسس الإمام إدريس الثاني عدوة الأندلس حتى بنى بها جامعا برحبة البئر وهو المعروف بجامع الأشياخ. وبعد أن شرع في بناء عدوة القرويين بنى بها جامعا كذلك، وهو المعروف بجامع الشرفاء، الذي كانت تقام فيه الخطبة، وأخذ في بناء داره المعروفة بدار القيطون.

بعد أن بدأت تظهر معالم المدينة وبدأ الناس في بناء دورهم ومساكنهم، قرر الإمام إدريس تقسيم المدينة على قبائل العرب والبربر، فنزلت العرب القيسية بإزاء الأسوار الجنوبية من عدوة القرويين، ونزلت الأزد بجوارهم، ونزل الحصبيون والفرس على الجهة المقابلة للقيسية أي بإزاء الأسوار الشمالية. 

أما قبائل البربر من صنهاجة ولواتة ومصمودة والشيخان فلم تحدد المصادر موضعها، واكتفت بالقول أن كل قبيلة نزلت بناحيتها. كما أنزل الإمام إدريس جميع أجناده البربر وقواده، وبها الدواب والغنم وخيول الفرسان. ولم ينزل معه بعدوة القرويين غير حاشيته من العرب ومواليه وحشمه وسائر رعيته من التجار والسوقة. 

وإلى جانب المسلمين العرب والبربر، أوت المدينة أفرادا من الطائفة اليهودية، حيث استقروا بعدوة القرويين بناحية أغلان إلى باب حصن سعدون، فبنوا البساتين والحوانيت والرباع. وكان بمدينة فاس مجوس وكان لهم معبد في مكان يسمى "الشيبوية" في الجزء الأوسط من عدوة الأندلس الحالية. وهناك كتاب تاريخ في أواخر القرن الخامس عشر بعنوان "ذكر مشاهير أهل فاس في القديم" يعطي حتى اسم الأسرة التي كانت تتولى الوظائف الكهنوتية لهذه الفرقة، وهي أسرة بني عبودة.

سرعان ما نمت عدوة الأندلس بوصول أهل ضاحية الربض من مدينة قرطبة في حوالي 817م، بعد أن أوقع بهم الإمام الحكم بن هشام وأجلاهم عن الأندلس، فنزل أغلبهم مدينة فاس، بعدوة الأندلسيين منها، وشرعوا في تعميرها وبنائها وحملت اسمهم "الأندلسيين"، وجاء منهم 8 آلاف بيت بحسب "روض القرطاس". وكان لهؤلاء الأندلسيين أثر كبير في تنمية هذه العدوة، فأعطوها طابعا جديدا لمدينة منظمة لم يكن لها من قبل، فنمت هذه العدوة على النمط الأندلسي، وحملوا إليها حسب تعبير "ليفي بروفنصال" تجربتهم في الحياة الحضرية، وتقنياتهم العتيقة في الفلاحة، والبناء والصناعة التقليدية.

وتذكر المصادر أن مدينة فاس ازدهر عمرانها ونمت بسرعة، وكثرت الخيرات وعمرت الأرض بالزراعة، وقصدها الناس من جميع البلاد، مثل التجار وأهل الصناعات. وكان للمهاجرين من أهل الأندلس والقيروان فضل كبير في بناء فاس، بفضل ما حملوه معهم من تراث أندلسي عربي.

وبعد بضع سنوات، وفدت على فاس جماعة أخرى من المهاجرين السياسيين من القيروان، وكان عددهم 300 أسرة، أنزلهم المولى إدريس بعدوة القرويين، وذلك سنة 825-826م. وبهذا صارت فاس تشكل مركزا للثقافة العربية في منطقة بربرية محضة، إذ كانت تضم سكانا قدموا من حواضر مزدهرة، وجلبوا معهم ثقافتهم وأدبهم وتجارتهم وتقنياتهم الصناعية والفنية. ولعل أبرز مثال يمكن أن نقدمه في هذا الصدد هو مثال المرأة القيروانية "فاطمة الفهرية" التي شيدت جامع القرويين بعدوة القرويين، وأختها "مريم الفهرية" مشيدة جامع الأندلس بعدوة الأندلس.

تدل بعض أسماء الأماكن بمدينة فاس على أسماء القبائل التي سكنتها أو على أثر لغتهم بها. حيث يوجد بفاس زقاق يسمى رحبة القيس، وقيس قبيلة عربية اختار منها إدريس الثاني قاضيه الأول. وأول جامع بعدوة القرويين وهو "جامع الشرفاء" يبين تمسك المولى إدريس الثاني بالسنة الشرقية النبوية. كما توجد في عدوة الأندلس التي سكنتها في السنوات الأولى لتأسيسها قبائل بربرية، نجد أماكن تحمل تسميات بربرية مثل "جرواوة"، وواد "مصمودة"، و"أشنيخن"، و"تامدارت"، وهي ألفاظ بربرية.

هناك عدة روايات حول تأسيس مدينة فاس وهوية مؤسسها، بين من ينسبها لإدريس بن عبد الله ومن يعتقد أن بانيها الحقيقي هو ابنه إدريس بن إدريس، ورواية أخيرة يتبناها "ليفي بروفنصال" ويقول إن إدريس الأول شرع في بناء مدينة فاس وكان مقررا أن تكون حاضرة، لكن لم يسعفه الوقت لإتمام ذلك، إذ وافته المنية وهي مجرد قرية بربرية بسيطة. وأتم بناءها ابنه إدريس الثاني وشيد مدينته في موقع أكثر ارتفاعا ولذلك كانت تسمى العالية وأسكن فيها القبائل العربية. وبعد هذا الاختلاف في مسألة تأسيس المدينة تلتقي كل الروايات في الأحداث التي لحقت مرحلة التأسيس، حيث تؤكد هذه الروايات على أن فاس كانت تضم عدوتين أولهما عدوة "الأندلس" وهي مقر سكنى المهاجرين الأندلسيين الذين شكلوا الغالبية الساحقة فيها، والثانية عدوة "القرويين" التي تضم القرويين القادمين من القيروان. لكننا اعتمدنا الرواية التقليدية نظرا لكونها الأكثر ترددا في المصادر التاريخية.

الباحث: الطيب عيساوي

 

المصادر:

كاتب مجهول، كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، ص 180.

علي الجزنائي، جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، ص26.

علي ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، ص46 و47.

روجي لوطورنو، فاس قبل الحماية، الجزء الأول، ص 60 و69 و72 و77.

جمال أحمد طه، مدينة فاس في عصر المرابطين والموحدين، ص 45 و46 و47 و55.