عبيد فاس

عبيد فاس

عبيد فاس، الطائفة السوداء بالمدينة، أولئك الذين لم ينسوا أوطانهم واحتفظوا بذكراها في قلوبهم وخلدوها في ألحان عتيقة تحمل من الحزن والأمل ما تحمله. إلى حدود اليوم مازال بحاضرة فاس من يتذكر وجود هذا العنصر ببعض العائلات العريقة، فحتى وبعد أن عُتقوا اختاروا البقاء بجوار الأسر التي خدموا أو خدم آباءهم عندها. وإن لم يكونوا، كعبيد، جماعة متحدة صلبة إلا أنهم شكلوا طبقة اجتماعية مهمة تركت بصمتها أو حري بنا القول تركت رمزا مطرزا في هذه اللوحة المتناسقة المسماة فاس، كما بقي جزء من عطرهم محفوظا وسط مئات العطور المشكلة لروح أهل فاس.

جابونا وجابونا من السودان ... باعونا وبلا ثمن

تحيلنا الجملة الأولى إلى ما نتخيله عندما نسمع ذكر كلمة عبد أو خادم (وهي مرادف الأمة في الدارجة المغربية)، فهذه الكلمة ولأسباب تاريخية التصقت بسكان مملكة السودان، وحتى في العقول فمملكة التبر وريش النعام نتخيلها ممتدة من تخوم الصحراء إلى حدود الغابات بوسط إفريقيا. ليس الأمر كذلك بل إن ممالك إفريقيا متعددة وكانت فيها الإمبراطوريات الكبيرة إلى حدود العصري السعدي، حين غاص المنصور بجيشه وغزا السودان عندها فقط كثرت القوافل وصارت تجارة العبيد قائمة بذاتها، في ذلك العهد بدأت فاس القرن السادس عشر تعرف وصول كميات كبيرة من العبيد إليها، وصارت تجارة منظمة لها تجارها المختصون وسماسرتهم.                                                                                                                                        

كانت طريق القوافل معروفة، من تنبكتو إلى توات ومنها لتافيلالت، ثم يساق المساكين إلى سوق الغزل المدعو بفندق بركة. ومع احتلال توات وانقطاع القوافل فإن التزود من السودان صار صعبا، لذلك عمد أصحاب القوافل إلى أسر بعض السود من الصحراء المغربية، أو اختطاف بعض السنغال وبيعهم بالبهجة الحمراء ثم منها إلى فاس.                                                                                                                                           

وطن غريب، أجواء أغرب وحياة مختلفة. من الصحاري الحارة إلى أزقة فاس الظليلة، ومن السماء المفتوحة إلى الأفنية المربعة حيث القمر يبدو مسجونا.                                                                                                                                                                        

يساق الأسرى إلى تجار العبيد، وقد أورد صاحب ''فاس قبل الحماية'' أسماء مشهورة كبنكيران والقصري وقد كان يتكلف بهم هؤلاء في منازلهم, يُطعمون ويُعتنى بهم كما يتعلم بعضهم بعض العربية حتى يجيء من يملكهم بموجب عقد يُكتب بالمنزل إن كان البيع بالتراضي. ويكون للزبناء الميسوري الحال الذين يختارون أجمل الإماء وأقوى العبيد، والباقون يعرضون بسوق النخاسة بين الظهر والمغرب، وأحيانا بالليل، حيث يعرض كل سلعته ويأتي الناس للمساومة. إلا أن هذا السوق كان قليل الارتياد ويندر ان يكون ممتلئا لأن أغلب البيعات تتم بالتراضي بالمنازل، وهكذا بمجرد أن يُباع الرجل أو المرأة تصير أمة ويصير عبدا له اسم جديد و ولاء لشخص جديد. أغلب العبيد تتغير أسماؤهم مع تغير أسيادهم كأنهم يولدون في كل مرة ويعيشون حياة جديدة، إلا أن الطابع المشترك أن هاته الأسماء كلهما تعبر عن حسن الطالع. فنجد بين الرجال "فاتح" و"مبيريك'' و"عابد" وبين الإماء "مرجانة"، و"زايدة" و"مسعودة" وغيرها من مسميات الورود وبعض مرادفات الحظ. وذلك لأن الأسر التي تملك عبيدا حين استيقاظ حرائرها فإن اسم الأمة أول ما ينطقن به، لذلك وجب أن يكون فأل خير وحتى الرجال حين خروجهم فإن العبد أول من ينادون لذلك فاسمه يجب أن يكون جالبا للحظ.                                                                

لم يكن العبيد مطلوبين بقدر الإماء، فالذكور كانوا للدور المخزنية وبعض الدور الكبيرة فقط أما الإماء فهن السواد الأعظم من المسبيات لأن فيهن المرضعة والسرية والخادمة والطباخة وكل الوظائف المنزلية، وتختلف أثمنتهم باختلاف وظائفهن وسنهن وحتى مقياس الجمال يلعب دورا.

قد يبدو من الوصف أعلاه أن حياة الضنك والشقاء هي ما ينتظر الأمة القادمة إلى منزل أسيادها، إلا أن الأمر ليس على ما يبدو. ففي النهاية الحياة ليست أبيض وأسود بل هي ألوان تمتزج وحيوات تتداخل لتندمج، فحتى وهي غريبة استطاع الأمة كسب ثقة سيدتها، أليست هي من تستطيع الخروج سافرة، أ لم تحمل هاته الكائن الخفيف الظل الرشيق الحركة الأبنوسي اللون معتقداتهم إلى قلب المنزل الفاسي؟ أ لم يدندن العبد، وهو جالس أمام الباب بزيه الرسمي لحن أسلافه العتيق وقدم الأضاحي لهم حين يقام حفل تشريف ''الملوك'' وتختلط دقات قلبه مع دقات طبل ''الكناوي''؟                                    

 لم يكونوا كإخوانهم الذين سيقوا إلى العالم الجديد ليبنوه بعرقهم ودمائهم، بل جاؤوا لعالم مبني فأضافوا زخارف لهندسته العريقة واندمجوا فيه.                                                                                                                                                                       

عومل عبيد فاس معاملة حسنة، إن لم تخل من بعض العصى التأديبية حين كان يُستعان بزرزاي ليربي العبد، وتتكلف العريفة المنزلية أو مديرة الخدم بالإماء حين كثرتهن. حالات التأديب هي حالات قليلة نادرة ولم تكن بالشيء المنتشر. فالعبد الآبق يُباع والمظلوم له الحق أن يطلب الحرم بجوار ولي صالح إلى أن يتم بيعه. ولعل المعاملة الحسنة هي من جعلتهم يفضلون حياتهم الأولى عن حياة الحرية حين تم إلغاء الرق مع الحماية، وصار بإمكان الأمة أن تترك أسرة سيدها دون أي مساءلة.                                                                                                                                                         

كان من الشائع أن تُعتق الأمة بعد ولادتها، وإن كان الابن من صاحب المنزل فهو يرث مع إخوته شرعا، لكن لا ينال أبدا مكانتهم الاجتماعية فهو دوما ''ولد الخادم'' وهي لفظ قدحي عتيق يحمل الدلائل و المعاني الشيء الكثير.                                                                                           

الإماء المرضعات والمربيات ''دادا'' في المصطلح الدارج المغربي هن صاحبات التأثير الأكبر، فحين تتقدم بها السنين تصير في مقام الجدة، ورأيها محل احترام إن لم نقل إنها تصير الآمرة الناهية في بعض الأحيان.

كما أسلفنا الذكر فإن السواد الأعظم من العبيد اختار حياة الرق على الحرية التي وهبتها الحماية لهم، إلا أنه في بعض الأحيان يحدث أن يعتق السيد عبيده ابتغاء مرضاة الله. لم يكن لهؤلاء المعتقون مكان يذهبون إليه، فلا أهل ولا أحباب ولا يعرفون مكانا غير الدور التي أوتهم. أشغال الذكور منهم تتلخص في الحراسة غالبا أو في ''السخرة'' بالدور المخزنية وللنساء الحمل الكبير بالدار. فالمربية والطباخة ومن تتكلف بسيدتها بل ومن تستقصي الأخبار وتستطيع الخروج وتقضي كل ما له علاقة بعالم النساء فهي الأمة. صعب جدا ألا تجد الواحدة منهن ما تفعله فهن منذ نعومة أظافرهن دُربن على العمل ونادرا ما يألفن الراحة.                                                                                                                                                           

للعبد المعتق اختيار أن يكون مع البنائين، مع طائفة ''الحراطين'' القليلة الوجود بفاس أو أن يعمل بالفرناتشي في الحمام، أو أي عمل يتطلب قوة وجهدا كما أنه قد يصير حارسا لعرصة أو جنان أو ربما دار.                                                        

إن كانت مهن الرجال كلها رتيبة صامتة عبيدا أو أحرارا كانوا، فالصخب هو ما يميز حياة الإماء. تقضي المستعبدات منهن الوقت بالمطبخ يتسامرن بصوت عال، ويملأن الأفنية الواسعة بلهجتهم المميزة التي تضيف طرافة إلى كلامهن. أما المعتقات منهن فتختلف بهن السبل، منهن من تختار الصمت في أواخر أيام حياتها، وتمضي إلى حياة التنسك بزاوية من الزوايا، أو تعيش على ما يتصدق به الناس إلى أن تنقطع آخر أنفاسها بالحياة. ومنهن من لا تتحمل الصمت فهي تعمل عمل المعتقات لا استغناء عنه في فاس أو بالأحرى لا يقوم عرس بفاس دون هاته الطائفة العالمة ببواطن العائلات والماسكة لسجل أسرارها: الخطابات.                                                                                          النساء اللوائي ينظر لهن برهبة وخوف، بحذر وحيطة، لكن لا غنى للعائلة الفاسية القحة عن هاته النسوة المنقطعات عن الحب والمتع رغم أنهن من ينظمنها.                                                                                                                                                             

كلهن تقريبا إماء معتقات ويحملن أسماء الأسر التي كانت تمتلكهم، فقد أورد لوتورنو أن "زايدة الحبابية" هي أمينة هذه الطائفة بفاس العزيزية. ويشير اسمها الأول أنها أمة والثاني أنها كانت ملكا لدار الحبابي الذي ضمنها حتى تستطيع الدخول لهذه الطائفة فلا تستطيع أي أمة الانضمام بل يجب أن تضمنها الأسرة التي امتلكتها سابقا وكذلك يجب على الأمينة والمحتسب ان يوافقا.                                                                                              

تتشكل الطائفة من "رباعات" وكل رباعة تضم معلمة واحدة مع صانعات ومتعلمات، قد تصل الرباعة إلى أربعين أمة معتقة وقد تقل إلى خمس عشرة فردا، كلهن تحت سلطة المعلمة الصارمة التي تحرص على إقامة العرس الفاسي مركزة على كل دقيقة وعظيمة حتى الشريط الذي تقاس به رجل العروس لشراء الشربيل فهي من تتكلف به... يشترط أن يكن قد تجاوزن مرحلة الشباب، وبدأت الكهولة تقترب منهن، كما يجب عليهن أن يكن غير متزوجات، فإن تزوجت الواحدة منهن تنقطع عن المهنة تلقائيا كالعذراوات المكرسات لخدمة أثينا كلهن عازبات يمضين عمرهن في اتباع التقاليد بحذافيرها. لهن من السمعة الطيبة ما سمحت لباقي التجار أن يقبلوا مشاركتهن في كسوة مولاي إدريس وهو الوالي الحامي لهن. وهن المسؤولات عن إعداد ''ابياضي'' الدمى المزينة بالحلي التي يحملها الزرزاية عند دخول السلطان المدينة، ولهذا يتلقين منحا من عند السلطان ويسمح لهن البقاء بالقصر في الاحتفالات الرسمية.                                                                  تتلخص مهنتهن في الاستقصاء عن العائلات، وهن على دراية بكل أهل فاس، وأصولهم وأسرارهم، وحتى ممتلكاتهم. لذلك كن هن خير مستشارات للزواج، وإن حدث هناك نصيب فمن عندهن يتم كراء الملابس المتعددة. وهن من يحرصن على اتباع التقاليد حسب كل طبقة اجتماعية، وأصولها فقد كن يمتنعن عن كراء ''الشيلية'' لغير الدور المنتسبة للدوحة النبوية مهما أغرين بالمال. كان يتم استدعاؤهن بحفلات الختان كذلك، بحفل البرزة وهو اليوم السابع للمولود، كذلك كن حاضرات لتلاوة الأدعية عند العودة من حج ميمون وعند المغادرة إلى دار البقاء.                                                                                

لا ترفض الأسر ضيافتهن بفصل الكساد، ولا يتوانين عن قضاء أيام بكل أسرة خاصة بفصل الشتاء، ومنهن من تشتغل طرازة كذلك.                                                                                                                                                                  

بحكم اختلاطهن مع الرجال فإن النساء كن يتقين شرهن ويخشينهن نوعا ما، كيف لا والواحدة منهن تستطيع أن تجعل زوجها يجلب ضرة أو قد يطلقها فلهن الاطلاع الواسع على أحوال الأسر، وهن الخبيرات بالشقوق والتصدعات، يصلحنها إن شئن و يزدن الشرخ اتساعا إن شئن.  إماء إلى عهد قريب كن موسومات الخرطوم، صرن طائفة تتحكم بتقاليد العرس ويحرصن على تطبيقه كما تقضي بذلك أصول الأرستقراطية الفاسية بكل تعقيداتها.                                                                                                                                                            

نساء نهمات شرهات منهن من اغتنين وكنزن الأموال بالنفحات والتبرعات المالية إضافة لأجورهن، كثيرات الثرثرة والنميمة تدينهن شعبي وتبجيلهن لولي المدينة لا يقل عن أكثر العائلات الفاسية عراقة.                   

من الإماء المعتقات من سلكن طريقا آخر وصار الناس يخشونهن، إنهن العرافات. وقد كن كذلك طائفة بالمقدمة ولهن من الطقوس ما يمكن القول إنها لم تتغير إلى الآن سوى في اختلاف طرق النصب والاحتيال.                                                             

تعددت مهن النساء فمنهن من علمت بالحمام وأخرى انتقل اسمها من أمة إلى ''خادمة'' تتلقى أجرا مقابل خدماتها.                                        

احتفظت الذاكرة الفاسية بهذه الفئة و خلدها بعض الفاسيين في كتاباتهم، فمثلا نجد أن الأستاذة "نزهة الفاسي الفهري" خصصت رواية اسمها ''دادة الياقوت'' تحكي فيها عن الأمة التي تكلفت بتربيتها، عن طفولتها حياتها وعن سبيها وهي من ساكني منطقة وادي درعة. كما تحدث "عبد المجيد بن جلون" عن الامة التي تكلفت بتربيته في إنجلترا لأن العادة جرت أن الحرائر لا يسافرن إلى ما وراء البحار وكان الرجال يختارون من الإماء من ترافقهن. وللدكتورة "فاطمة المرنيسي" كذلك قولها فهي تحكي لنا في سيرتها الذاتية عن الإماء اللوائي تتذكرهن في طفولتها وكيف أثرن فيها.  وعلى ذكر المرحومة المرنيسي ففي "نساء على أجنحة الحلم" أوردت أنه خلال أيام الجوع هناك من أهالي الجبال من باع ابنته لتصير أمة، وأوردت الإشارة لأذكر أن ذكر العبد، وإن كان دوما ملتصقا بسواد اللون، فمن العبيد والإماء من كانوا من سبايا الجهاد البحري وهم روم بيض البشرة إن أسلموا يسمون علوجا ويعتقون.        

الباحث: إلياس أقراب

                                                                                                    

المصادر:

فاس قبل الحماية، روجي لوتورنو. الجزء الأول الكتاب الثالث الفصل الأول - الجزء الثاني الكتاب السابع الفصل الثالث.