قصيدة دمليج زهيرو: جولة في دروب وحارات الحاضرة الإدريسية

قصيدة دمليج زهيرو: جولة في دروب وحارات الحاضرة الإدريسية

تغنى العديد من الشعراء بالكثير من المدن المغربية والعربية، لكن مدينة فاس العريقة حظيت باهتمام خاص، ونظمت في وصفها ومدحها العديد من القصائد، ولعل من بين هذه القصائد التي يجد المتذوقون للملحون متعة وطربا عند الاستماع إليها هي قصيدة دمليج زهيرو لمحمد المدغري.                                                                                                                          

أبيات منظومة لعاشق عزّ عليه فراق محبوبته التي أهدته سوارها ليسلو به عندما تشتد عليه حمى العشق على أمل اللقاء القريب، إلا أنه أضاع هذا الأثر الغالي والنفيس. يُسهب الغارق في الحب في وصف الدملج البديع التخريم النادر التزيين، والذي يقل مثله بخزائن ملوك الوقت على امتلائها. لا شيء يساوي سوار العشيقة المازج بين مهارة الصائغ وحكمة الفيلسوف، فأي مال يشتري هذه الخريدة وإن جاؤوا بمال حواضر العالم القديم، وأضافوا له كل نفيس وثمين، فلا يغنيه عن سوار وليفته وأمانتها الضائعة.                                                                        

     ''طاح الدمليج وحار أمري**وبقيت كنخمم ضي وديجور                                                                                       

يعذر حالي من كان عذري**ولا من بحالي جرحو معكور                                                                               

                     سرت نفتش ونزاح صبري**وانا كليح هايم والدمع يفور''                                                                                                    

أيام وليال وشاعرنا يرثي الدملج الضائع، وأخيرا قرر أن يبدأ رحلة البحث من باب الخوخة بعدوة الأندلس، ويدور حولها بين الجنانات التي لم تكن قد تحولت لدور بعد. ومن الباب إلى داخل الأسوار ماشيا مطأطئ الرأس باحثا دون كلل بين النوايل وبعض الدور التي كانت بجانب باب المعلوم، قبل أن تقوده قدماه إلى جوار ولي النسجاين سيدي بوجيدة. ويمضي بدرب الكنيف بنفس الحومة ومنها إلى عدوة الأندلس حومة الكدان المترامية الأحواز، ولعله في رحلة بحثه مر من أمام بيت جبينة بن جلون، سأل جنائنيا بجنان أقصبي أو استوقف بعضا من الداخلين لفندق العطار أو زائرا لسيدي علي الحجام  بالحومة، لكن دون أي جدوى.

وبقلب منكسر دعا الشاعر وهو يمر أمام وقف مريم الفهرية وجامعها، لينزل منه نحو الصفاح باكي العين، يمر بالسويقة ويسأل بائعي السفنج أو مارّا بجانب جامع سيبوس أو بجانب الزاوية الكتانية. وها هو اليأس عاوده ليعود أدراجه من ناحية الأقواس لعله بجانب دار الصنهاجي أو بدرب زندب يجد ما ضاع، ومن الأقواس إلى الجزيرة وسيدي عبد الرحمان المليلي ليتجاوز العدوة من الرصيف عبر القنطرة لعل الدملج يتراءى له عالقا بها، أو ربما شاهده أحد من زنقة الخراشفيين أو اشترته امرأة بسوق الدلالة.

إلا أنه يكمل مسيره ويطوف بأحواز حومة المخفية، نحو بوعجارة الزنقة التي قلبها ومشى فيها ضاربا أخماسا بأسداس، وفي كل خطوة يخبو أمله تارة و تتقد لوعة حبه تارة أخرى. وبعد أن قطع قنطرة بوعجارة الفاصلة بين الزنقة السابقة وباب الحديد، سار للصفيفح و منه نحو راس الجنان لعل أهل زاوية القادريين يدلونه. وحين أعياه البحث المضني، عاد من باب الحديد نحو الدوح، ليمضي منه إلى البطحاء حيث درب صلاج، باحثا متطقسا عن أخبار سوار في سبيله طاف من أحواز عدوة الأندلس إلى أن وصل لساحة البطحاء المطلة على باب بوجلود. وبدل أن يسر نحوه فإنه دار بساحة البطحاء وابتلعه درب السراج ليفضي به مباشرة نحو الطالعة الصغيرة

يبحث ويسأل بدرب الحرة وبالسياج، وهناك دلته دّالة وأشارت عليه بالنزول نحو القطانين، واشترطت عليه أن يزورها بالعشي ليتسنى له أن يسأل الريّم المجتمعات هناك لعلهن متجهات لحمام الأوليا أو زائرات للزاوية الكتانية. يمضي الشاعر بلوعة والساعات تمر ثقالا، يسير من درب الحرة بالطالعة الصغيرة نحو بوحاج ومنه للقطانين، فالأوانس لم يشفين غليلا ولكن شُرن عليه بالبحث عن سيدة تدعى ماريا لعلها تدله أو تدله على من يدله.

ومن القطانين سار لدرب الميتر، ومنه إلى البليدة حيث سيدي أحمد التيجاني، يستوقف كل مار عله يدله بعد أن ضاقت عليه الحاضرة بما رحبت، وتشابهت عليه الدروب بمتاهاتها وهو ابن الحاضرة البّار. من قلب المدينة نحو الأرباض من جديد، وهذه المرة قبّل نحو حومة الزنجفور لعل أحد المارة يرق لحاله ويدله. طاف بالحومة ومضى منها إلى الحفارين على مقربة من فندق اليهودي، ليسير إلى زقاق الرمان وينهي بذلك جولته نحو الباب الكيسة، وقد بلغ منه التأثر مبلغا وما عاد قادرا على مواصلة المسير، ولم تبق إلا الطالعة الكبيرة لعل من بها يشور عليه.

وبعد ليلة طويلة لم ينعم فيها براحة ولا نوم،  فنار حبه متقدة لكن أسقمه فقدان الدملج، مضى في الصباح الموالي بالطالعة الكبيرة من زقاق الما صاعدا إلى  درب رحى الشمس الفوقية ومنه إلى درب بن عزاهم، وكلما ضلله درب زادت الغيوم تكسو خاطره، وكلما أنعشته سقاية ازداد عطشه. وفي محاولة أخيرة يائسة بأحواز الطالعة لقيته شابتان تتجهان إلى بيت الصور ''السينما''، الكائنة برأس الطالعة الصغيرة. رأتاه تائها مكسور الخاطر، فسألتاه و حكى لهما قصته، وكم كان سروره عظيما عندما أخبرتاه أن دملجه موجود وتعرفان مكانه، فكأنما روحه ردت إليه.

أخبرتاه أنه في يوم ازدحام وفرحة يوم زيارة السلطان، في ذلك اليوم ضاع "الدمليج" ووجدته عارفة بقصة العاشق فخبأته، وعندما سأل الشاعر عن عنوانها ضربتا له موعدا يوم الجمعة. اليوم المشهود الذي يمتلئ ويحيى فيه جنان السبيل، وتتجاور خلاله طيور السماء مع حوريات المدينة، ليرفهن عن أنفسهن ويتسامرن وسط الخضرة والماء والوجه الحسن.                                                                        بجانب الصهريج الكبير، على مرأى من كل عاد وباد بجنان السبيل، تحدد الموعد وما أخلفه الطرفان، فشاعرنا لقي الغزلان متسربلات بجلابيبهن يخفين وجوههن خلف اللثام الشفاف. جاءت الفتاتان ومعهما السيدة التي لقيت "دمليج زهيرو". وبعد أن اجتاز الاختبار سلمن له أمانته، وفارقهن مودعا ملائكة الحب اللائي أشفقن لحاله، والسعادة تغمره بعد أن استعاد الدملج واستعاد معه الفرحة وتبددت الأحزان.       

القصيدة مسموعة بصوت الفنان "محمد بوزوبع":       

                                                                          

الباحث: إلياس أقراب

المصادر:

محمد الفاسي: معلمة الملحون: الجزء الأول القسم الأول الصفحة: 29 و32.

محمد الفاسي: معلمة الملحون: الجزء الثاني: القسم الثاني: الصفحة: 333 و336.