مدينة البصرة المغربية: الحاضرة الإدرسية المندثرة
نسمع كثيرا بالبصرة العراقية، تلك المدينة الضاربة في القدم التي تقع في أقصى جنوب بلاد الرافدين، وذات الرمزية التاريخية بالنسبة للعراقيين والعرب. لكن قليلون من سمعوا بالبصرة المغربية، وهي الحاضرة الإدريسية العريقة التي بنيت بعد فاس وكانت مقاما للأمراء الأدارسة، قبل أن تتحول لأطلال وتدفن لسنوات تحت التراب، لتولد من جديد منزوعة الروح.
البصرة المغربية هي مدينة أثرية تقع على الطريق الرابطة بين سوق الأربعاء الغرب ومدينة وزان، على بعد نحو 20 كم من مدينة سوق الأربعاء الغرب و40 كم من المحيط الأطلسي، بمنطقة تسمى حاليا "دوار جعاونة" أو "جعاونة البصرة". وهو دوار بني على أنقاض مدينة البصرة المغربية، التي شيدت في عهد الأدارسة، وأهملت لقرون تحت الأنقاض قبل أن يعثر عليها مجددا فريق بحثي أمريكي في ثمانينات القرن الماضي، حيث تم اكتشاف بعض من أنقاضها وتشمل جزء من سورها وحمامات وبعض الأفران، لتعود البصرة لحالة الإهمال منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.
اختلف المؤرخون في تحديد حجم مدينة البصرة، حيث أشار إليها ابن حوقل بكونها مدينة متوسطة الحجم، وقال إن سورها ليس بالمنيع وخارجها بساتين وعيون، فيما ذهب البكري إلى اعتبارها مدينة كبيرة، حيث يقول: "البصرة مدينة كبيرة واسعة، وهي أوسع تلك النواحي مرعا وضرعا، ولكثرة ألبانها سميت ببصرة الدبان وتعرف أيضا ببصرة الكتان، كانوا يتبايعون في بدء أمرها في جميع تجاراتهم بالكتان وتعرف أيضا بالحمراء لأنها حمراء التربة". وأرجع الحسن بن الوزان الفاسي سبب تسمية المدينة بالبصرة إلى البصرة العراقية، قائلا: "وسميت بالبصرة تذكيرا ببصرة بلاد العرب".
تشير المصادر التاريخية إلى أن المدينة شيدت في فترة حكم الأشراف الأدارسة، بين من أسند تشييدها للقاسم بن إدريس، ومن نسب تشييدها لمحمد بن إدريس، لكن الحسم جاء عند العثور على قطع نقدية سكت بالمدينة وعليها اسم إدريس الثاني، ما أضعف كل الفرضيات السابقة وعزز الفرضية الأخيرة، وبذلك فإن المدينة أسست في بدايات القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي. ورغم اعتبار المؤرخ الكولونيالي شارل تيسو في كتابه "أبحاث في الجغرافية المقارنة لموريطانيا الطنجية" أن مدينة البصرة بنيت على أنقاض المدينة الرومانية المفقودة "تير"، إلا أن رأيه لا يدعمه أي سند نصي أو أثري.
أشار ياقوت الحموي إلى البصرة بالقول "هما بصرتان؛ العظمى بالعراق، والأخرى بالمغرب". وجاء ذكر البصرة في كتاب "تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية" لابن كثير، حيث أشار إلى وجود مدينة مغربية تحمل اسم البصرة، أسسها محمد بن إدريس الثاني سنة 218هـ (833م) وكانت بلدا إسلاميا مشهورا ولا زالت آثارها باقية على آثار الطريق من طنجة إلى سوق الأربعاء على نحو 100 كيلو مترا جنوبي طنجة. بينما حدد موقعها ابن سودة بقوله "إنها إحدى مدن المغرب المضمحلة التي كانت قرب مدينة القصر الكبير".
اشتهر سكان البصرة المغربية بنشاطهم التجاري، إذ أشار "ابن حوقل" إلى أهل البصرة أنّهم كانوا يستخدمون مياه نهر سفدد في تسيير مراكبهم ليصلوا إلى البحر المحيط، (المحيط الأطلسي) ويعودون إلى البحر الغربي أي بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) فيسيرون منه حيث شاءوا، وأنهم استخدموا البحر المحيط لنقل بضائعهم ويعودون إلى بحر الروم.
ظلت مدينة البصرة مزدهرة لسنوات، حيث اتخذها الأمراء الأدارسة مدينة للاستجمام وقضاء الصيف، ويقول المؤرخ الحسن الوزان إن “عادة ملوك فاس أن يذهبوا إليها لقضاء الصيف بسبب برودة المياه والغابات، ولأنها من أحسن أماكن الصيد”. عرفت البصرة كذلك بجمال نسائها، وفي البيتين التالين، يصف احمد بن فتح التاهري جمال نساء البصرة (المغربية) وقد بلغت بهذا الشاعر أن برع في جمع أربعة أوصاف لجمال المرأة البصرية مع الدقة في الوصف، وذلك كله في بيت واحد:
ما حاز كل الحسن الا قينة بصرية في حمرة وبياض
الخمر في لحظاتها، والورد في وجناتها هيفاء غير مفاض
خراب مدينة البصرة بدأ على يد المكناسيين حين استولى عليها زعيمهم موسى ابن أبي العافية وأجلى الأمراء الأدارسة عنها، بعد أن اتخذوها عاصمة لما بقي من فلولهم بعد ضياع فاس من بين أيديهم. وأدى الصراع الذي دار بين الأدارسة والعبيديين الشيعة (الفاطميين) من جهة والأمويين من جهة أخرى إلى خرابها النهائي، فقد دمرها أبو الفتوح يوسف بن زيري الصنهاجي وخرب أسوارها، ليرحل بجنوده منها بعد تخريبها إلى برغواطة، لتصبح أطلالا مسواة بالأرض بعد قرن ونصف من تأسيسها.
اليوم وبعد قرون من خراب مدينة البصرة، وبعد إعادة اكتشافها من تحت الأنقاض، فإن توقف الأبحاث وأعمال التنقيب بالمنطقة جعل ما تبقى من الآثار المكتشفة يعيش حالة من التلف والتخريب اليومي بسبب تطاول ساكنة الدوار على هذا الصرح واستخدام حجارته في بناء بيوتهم، ولم يتم تسجيل الموقع ضمن المواقع الأثرية بالمغرب، ولم يحظ بالعناية والاهتمام القادرين على تحقيق مزيد من الاكتشافات وكشف أسرار هذه المدينة الإدريسية المهمة، لتضيع بذلك البصرة المغربية أمام أعيننا، ويضيع معها جزء مهم من تراث المغرب التاريخي والعمراني.
بقلم الباحث: الطيب عيساوي
المصادر والمراجع:
فاطمة بلهواري، التبادل التجاري بين مدن بلاد المغرب خلال القرن 4 هـ/10م، مجلة إنسانيات.
ابن كثير، تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية، ج1، ص 135.
الحسن الوزان الفاسي، وصف إفريقيا، ج1، ص 120 وص 310/ 311.
البكري، المسالك والممالك، ص 126 وص 218.
ياقوت الحوي، معجم البلدان، ص 430.
مامول كربخال، أفريقيا، ج 2، ترجمة محمد حجي وآخرون، ص 196.
ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق كولان وليفي بروفنصال، ج1، ط3، ص 235.