حديقة جنان السبيل: حديقة تفوح بعطر الأندلس

حديقة جنان السبيل: حديقة تفوح بعطر الأندلس
حديقة جنان السبيل: حديقة تفوح بعطر الأندلس
حديقة جنان السبيل: حديقة تفوح بعطر الأندلس
حديقة جنان السبيل: حديقة تفوح بعطر الأندلس

لطالما عرفت مدينة فاس بحدائقها وبساتينها التي كانت تمتد داخل أسوار المدينة العتيقة وخارجها، بل وكانت العديد من البيوت الفاسية العريقة تحتوي على حدائق صغيرة تضفي حسنا وبهاء على فناء البيت.

تعتبر حديقة "جنان السبيل" أو حديقة "المسيرة الخضراء" كما تشير إلى ذلك اللوحة المثبتة فوق بابها الرئيسية، أقدم حديقة عمومية بفاس، فهي مراز يومي للعديد من الباحثين عن الهدوء والسكينة، من داخل مدينة فاس وخارجها. شيدت على يد السلطان عبد الله العلوي في القرن 18، على مقربة من ساحة أبي الجنود التاريخية، وأحيطت بأسوار عالية، فكانت حديقة ملكية تابعة للقصر السلطاني، وشبيهة في هندستها بحدائق الأندلس.

تورد بعض المصادر أن التاريخ الفعلي لإنشاء الحديقة يعود إلى العصر المريني، وأنها كانت تسمى "بستان الأميرة آمنة المرينية"، إلا أنها تعرضت لإهمال شديد فأتلفت أشجارها وجف ماؤها واندثرت معالمها، إلى أن اعتنى بها السلطان العلوي عبد الله بن إسماعيل وجعلها حديقة خاصة به وبحاشيته ونسائه.

في عهد مولاي الحسن (1873-1894) ، اتحدت فاس الجديد بالمدينة القديمة من خلال مجموعة من الجدران العالية المكسوة بالزجاج لأسباب أمنية ولحماية حدائق بوجلود من أعين المتطفلين على سيدات القصر. وسمح ممر تحت أرضي للقصر بالوصول إلى هذه الحدائق المغلقة التي امتدت إلى الدار البيضاء (وهو قصر جديد بناه مولاي حسن في نهاية عهده، وقام بتوسيعه مولاي حفيظ). هذا الممر تحت الأرضي أدى أيضًا إلى قصر البطحاء، فقد بدأه مولاي عبد الرحمن واستمر من قبل الملوك الآخرين حتى عبد العزيز (1894-1909). 

استحوذ المقيم العام الفرنسي "الجنرال ليوطي"، بموافقة السلطان مولاي يوسف (الذي حل محل مولاي حفيظ) ، في عام 1912، على حديقة بوجلود بأكملها، وقصر مولاي حفيظ والبطحاء. وفي نفس العام، امتدت حديقة بوجلود على مساحة سبعة هكتارات ونصف. وحوالي عام 1917، وتحت إدارة أول رئيس للخدمات البلدية لفاس، النقيب ميليير، تقرر حجز حديقة بوجلود لإنشاء حديقة عامة. 

اتخذت الحديقة اسمها الحالي "جنان السبيل" من كونها صارت مفتوحة أمام العموم مجانا، ولم تعد حكرا على السلطان وحاشيته.

يتم الدخول إلى "جنان السبيل" عبر واحدة من أبوابها السبعة الضخمة، وتتوفر الحديقة على نحو ألف نوع من المغروسات المتنوعة، بين النباتات الصغيرة النادرة مثل “السكاس” و”الكاميروس”، وأصناف نباتية مغربية ولاتينية وأخرى آسيوية، كقصب الخيزران الذي لا مثيل له إلا في الصين والهند، و”الوشنطنيا” والبامبو، وأشجار النخيل التي يفوق عمرها مائة سنة، والأشجار الباسقة التي تعلو أغصانها أسوار الحديقة العالية مثل "الصنوبر" و"الأوكاليبتوس"، مشكلة ملجأ طبيعيا خلابا يشد الزائرين ويأسرهم.

كما تتوفر الحديقة على نوافير وجداول ونواعير نادرة، تعزف أصواتها إلى جانب أصوات الأشجار وتغريدات العصافير، أجمل معزوفة طبيعية. كما تحتوي الحديقة على ممرات خشبية جميلة، وقناطر ينساب من تحتها الماء المتوجه إلى بركتها الشهيرة.

شكلت الحديقة على الدوام فضاءً مفضلا لساكنة الأحياء المجاورة لها، وخاصة منهم العشاق الذين يجدون فيها مكانا رومنسيا هادئا، وينسجون فيها أحلامهم الوردية ويقطعون فيها العهود بالوفاء الأبدي والحب الصادق. كما يستمتع بالحديقة زوار من كل الفئات، يحبون التجول بين جنباتها وعادة ما تكتظ بهم في يوم الجمعة، ومنهم من يقصد مقهى الحديقة، المسمى "مقهى الناعورة" نسبة إلى الناعورة الجميلة التي توجد بمحاذاته، للاستمتاع بالأغاني الطربية العربية العتيقة لعمالقة الطرب العربي. ويجد التلاميذ والطلبة في الحديقة ملاذا هادئا للمراجعة والتحضير للامتحانات، لما تقدمه لهم من طقوس مجانية مشجعة على الحفظ.

تغنى بحديقة "جنان السبيل" العديد من الشعراء، ونظموا القصائد حولها ليعبروا عن إعجابهم بها وخضوعهم لسحرها وجمالها الأخاذ، كما تغزل بها شعراء الملحون والمطربون، ومن بينهم عميد الأغنية المغربية عبد الوهاب الدكالي بأغنيته الشهيرة: "يا الغادي لجنان السبيل".

أُهملت حديقة "جنان السبيل" لسنوات كثيرة، ما جعل مرافقها تتضرر بشدة، وتطلب تدخلا ساميا لإنقاذها من التلف والضياع، حيث بادرت، سنة 2010، مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة، التي ترأسها الأميرة للا حسناء، إلى إعادة تهيئة "جنان السبيل" وإعادتها إلى سابق عهدها. حيث تم ترميم الأحواض والممرات والنافورات والساقيات والقنوات والنوريات، كما تم إحداث نافورة للزينة على أحد المجاري المائية بالحديقة على أنقاض النافورات الخشبية العتيقة، فيما تم إحداث "جزيرة" وسط بركتها غرست بأشجار النخيل ووضعت بداخلها طيور الإوز والبط وكذلك أصناف من الأسماك، ما زاد من سحر هذه الحديقة ورونقها، كما تم إنشاء أحواض للرياحين بالجانب الجنوبي الشرقي للحديقة.

تحتضن الحديقة اليوم عدة تظاهرات ثقافية وفنية، مثل حفلات الموسيقى الأندلسية، ومهرجان فن الملحون، ومهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، وأنشطة فنية متنوعة أخرى. وتحتفظ ذاكرات الفاسيين بذكريات جميلة وهادئة في هذه الحديقة العريقة التي ترعرعوا في محيطها ونمت وعلت أشجارها وسطهم، فهي أكثر من مجرد حديقة عمومية، بل إنها بيت ثان لكل فاسي وفاسية.

بقلم الباحث: الطيب عيساوي

المصادر:

محمد السنوسي معنى، نبضات من قلب فاس، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2013، ص 157-158-159.

هسبريس

الشرق الأوسط

À L'OMBRE DU ZALAGH