إدريس الأب أم الابن: من أسس مدينة فاس؟

إدريس الأب أم الابن: من أسس مدينة فاس؟

مدينة فاس هي العاصمة العلمية للمغرب، وواحدة من أهم مدن العالم العربي والإسلامي على مر التاريخ. فهي الحاضرة التي لطالما كانت عاصمة إدارية لممالك المغرب، أو المدينة الثانية من حيث الأهمية حينما تتحول العاصمة لمدينة أخرى كمراكش أو مكناس أو الرباط. فمتى تأسست حاضرة فاس؟ ومن هو مؤسسها الفعلي؟ ولماذا تأسست عبر مراحل وأشطر معينة؟

ليس الحديث عن مسألة تأسيس فاس بالأمر الهين، لأن الروايات في هذا الصدد تتعدد وتتكاثر، وتجعل الإقرار برواية من الروايات أو التسليم بها مجرد ضرب من التسرع. لذلك سنقوم بعرض كل تلك الروايات التي جاء بها المؤرخون المغاربة والأندلسيين، لأن الأمر غير محسوم بالنسبة للمؤرخين والجغرافيين، فمنهم من يقول أن مؤسسها هو إدريس بن إدريس ومنهم من يقول إن إدريس الأول بدأ بناءها وأتمه ابنه إدريس الثاني.

الرواية الأولى:

تقول إن مؤسس مدينة فاس الفعلي هو إدريس بن إدريس، الذي نجح في بنائها بعد محاولتين فاشلتين، أولاهما في سنة 190هـ/ 806م، وثانيهما في 191هـ/ 806م، إلى أن جاءت المحاولة الناجحة في الأشهر الأخيرة من سنة 191هـ/ 807م، وتفاصيلها كالتالي:

لما تقوى ملك إدريس بن إدريس وكثرت حاشيته إلى أن ضاقت بهم مدينة وليلي، قرر الانتقال إلى منطقة أخرى يشيد فيها مدينته. كلف الأمير إدريس وزيره عمير الأزدي بمهمة إيجاد موقع لتشييد المدينة، وبالفعل تمكن هذا الأخير من إيجاد موقع في سهل سايس بين جبلين تتفجر فيه العيون والأنهار، يسكنها قوم من قبائل زناتة (بنو يازغة وزواغة المعروفون ببني الخير). وعاد إلى أميره مبشرا، فلم يتوان المولى ادريس في شراء الأرض من ملاكها الأصليين، وشرع في البناء.

ذكر ابن أبي زرع الفاسي أن بني يازغة كانوا سباقين لبيع عدوتهم الشرقية إلى الإمام إدريس بن إدريس، مقابل 2500 درهم، وأنه أشهد عليهم بيعه بعقد تولى ضبطه كاتبه أبو الحسين عبد الله بن مالك الأنصاري الخزرجي، وذلك في الأشهر الأخيرة من سنة 191هـ/ 807م. ونزل بهذه العدوة بالموضع المعروف إلى اليوم باسم "جرواوة"، وشرع في البناء يوم الخميس غرة ربيع الأول سنة 192هـ/ 4 يناير 808.

رجع الإمام إدريس بعد ذلك إلى مدينة وليلي لتصفية حساباته مع إسحاق بن عبد الحميد الأوربي الموالي لبني الأغلب، وأفشل خططه وقتله في 7 ذي الحجة سنة 192هـ/ 3 أكتوبر 808، ثم قصد العدوة الشرقية لفاس لتفقد أشغال البناء والتشييد. وأثناء مقامه هناك، أرسل إليه بنو الخير الزواغيون، جيرانه في العدوة الغربية فلبى دعوتهم وزارهم، وتكللت هذه الزيارة بأن ابتاع منهم بقعتهم بـ 3500 درهم (وقيل في روض القرطاس 6000 درهم)، فترك فاس وانتقل إلى العيش بها وهناك صار يقطن في داره المعروفة بدار القيطون بهذه العدوة التي سميت "العالية" التي قيل إنها سميت كذلك نسبة لعلوها عن العدوة الشرقية أو نسبة لعلي بن أبي طالب جد الأدارسة أو صفة لقيمة حضرتها التي شملت دار الإمام ومقامه. وبهذا شيدت العدوة الغربية في عام 193هـ/ 809م

الرواية الثانية:

هي رواية تقر بأن مؤسس مدينة فاس هو إدريس بن عبد الله، ويؤيدها خبر رواه ابن الأبّار عن المؤرخ القرطبي أبي بكر بن محمد الرازي، من القرن العاشر جاء فيه: "يؤكد أبو بكر الرازي أن إدريس بن عبد الله في رمضان سنة 172 (فبراير 789)، هاربا بنفسه من أبي جعفر المنصور، فنزل موضعا يقال له وليلي بوادي الزيتون. فاجتمعت إليه قبائل من البربر فقدموه على أنفسهم، وبنى مدينة فاس...فلم تطل أيامه حتى هلك سنة 174هـ، وترك جارية حاملا منه فولدت بعده ابنا سمي إدريس بن إدريس، ملك بعد أبيه مدينة فاس".

ويؤيد هذه الرواية نص لابن سعيد (من القرن 13) ونصان آخران من تأليف المؤرخ الأندلسي أبي الحسن النوفلي، ذكره الجغرافي البكري، ونص آخر مجهول المؤلف ذكره ليفي بروفنصال، وكلاهما يقران بأن مدينة فاس كانت مبنية قبل إدريس بن إدريس وأن مشيدها هو أبوه إدريس بن عبد الله.

ولعل أبرز ما يزكي هذه الرواية هي القطع النقدية المسكوكة التي تعرف منها اثنتان، واحدة محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس، والأخرى في متحف خارخوف، الأولى مؤرخة بعام 189هـ/805م، والثانية بعام 185هـ/801م، أي أنهما معا سابقتان للتاريخ التقليدي لتأسيس فاس. لكن القطع النقدية المضروبة باسم إدريس الثاني بعد عام 192هـ/ 808م تحمل علامة "العالية" لا مدينة فاس.

المصادر:

مجموعة من الكتاب، تاريخ مدينة فاس من التأسيس إلى أواخر القرن العشرين (الثوابت والمتغيرات)، ص 24-25-26.

روجي لوطورنو، فاس قبل الحماية، الجزء الأول، من صفحة 57 إلى 61.